من الصعب على طفلة عانت من التمييز العرقي والعرج وكونها مختلفة، أن تغدو سياسية متفردة في عالم رأسمالي وحشي يعاني أبناؤه من الحروب والتمزق، هذا ما يخاله الكثير أو على نحو أدق يحاول إثباته، فيُقنع الإنسان ذاته باستحالة العمل والسعي في ظرف حياة عصيب، مزيحًا عن كاهله فكرة الكفاح، وليجِد لذاته السبيل في التملص من الواجبات. والأمر غير صحيح نسبيًا، فنضوجنا الفكري والعقلي والاجتماعي يظهر ويتطور وفق معادلة بسيطة للقدرات البشرية؛ فحين تتراكم الضغوط يفاجئ البشر أنفسهم بالكثير من القدرات الجبارة التي بوسعها أن تبني عالمًا فذًا وإنسانيًا، تعيش فيه الكائنات في بيئة عادلة، والعدالة بحد ذاتها تختلف حسب منظور كل شخص، وكل كائن، وحسب الظروف المعيشية لكليهما، ولا نستطيع أن نجزم برضا الكائنات الأخرى على هذا الكوكب عن تسلطنا الواضح والصريح على كل ما دوننا من المخلوقات بل وعلى أبناء جلدتنا، وهكذا وجدت روزا نفسها في هذه الحياة في ظروف صعبة، ودولة ممزقة. ولك أن تتصور امرأة تقاتل من أجل حقها في التفكير في القرن العشرين حيث العالم ملك للذكور من البشر دون سواهم، سيدة نشأت على شغف العلم الذي جرها بعيدًا عن أي تكتلات دينية أو تطرفية سيق نحوها الكثير في أوروبا آنذاك. لتبرز وتلمع كشخصية محورية في تاريخ الاشتراكية حتى يومنا هذا.
نشأتها وتعليمها قبيل دخولها المعترك السياسي
ولدت روزاليا لوكسمبورغ في الخامس من آذار عام 1871م، وكان لنشأتها في بلدة بولندية محتلة من قبل روسيا القيصرية لعائلة يهودية تعاني جراء العنصرية، الأثر الأكبر في تكوين شخصيتها ونضالها من أجل العمال، مع ذلك فقد رافقتها ملامحها الهادئة المعتادة طيلة سنوات سعيها، ولم تسعَ يومًا لإضفاء طابع خاص على شخصيتها في كتاباتها أو خطاباتها، بل تركت الحرية لأفكارها بالتجول بجرأة بين الجموع دون خوف؛ فكانت ذات الشخصية المميزة التي تنطلق دون الحاجة لإثبات ذاتها بشذوذ مفتعل، بل ظهر تفردها بانفعالها الصادق دفاعًا عما تؤمن به لتغدو أسطورة تذكر في كل حديث تروى فيه حكايا أبطال العصر الاشتراكي الحالمين. وقد ظلت طيلة أعوام حربها ضد الرأسمالية بنفس شجاعتها التي أودت بحياتها فيما بعد، وإنّك لتجد في تقاسيم وجهها -التي قد تبدو للوهلة الأولى ذات طابع صارم وبارد- حب السلام والإصرار، وستجد ذلك بارزاً في محياها وفي خطاباتها الدافئة وكرهها للظلم بشتى أشكاله. بل وستراه (أي السلام) جليًا في كل كتابات روزا المهاجمة لكل ما لا تعده صائبًا في الممارسات الديكتاتورية للسياسة البلشفية آنذاك.
وانتقلت عائلة لوكسمبورغ إلى العاصمة وارسو لتُتيح لأطفالها تعليمًا أفضل. وقد برزت روزا في حياتها الدراسية كفتاة حادة الذكاء، ومتقدة الحماس، ورغم القيود التعليمية التي فرضت على الفتيات البولنديات، ناهيك عن اليهوديات منهن؛ إلا أن تفوقها الملحوظ مكنها من إكمال تعليمها، ثم انتقلت لزيورخ-سويسرا هربًا، متخلصة من عبء تحمل الأجواء القيصرية التي كانت مسيطرة على بولندا، وكذا ملاحقات شرطة القيصر لها لمعارضتها للسلطات. وهناك اتخذت من علوم الحيوان مجالها الدراسي ولم تكن سويسرا بداية اطلاع روزا على عالم الاشتراكية، فقد دخلت في عمر السادسة عشرة تقريبًا في مجموعة تعليم ذاتي سرية في وارسو لتتعرف لأول مرة على كتابات كارل ماركس -التي كانت تتداول بسرية وتُهرب لداخل بولندا- عن طريق مجموعة ماركسية سرية تدعى «بروليتاريا» وهو مصطلح يطلق على الطبقة العاملة. كانت زيورخ مدينة المنفيين من الاشتراكيين اليساريين والشيوعيين، وقد بدأ نبوغ روزا في المجال السياسي يظهر بعد أن رست في هذه المدينة، وخصوصا بعد لقائها بليو جوكيش المناضل البولندي الذي بقي رفيقًا وصديقًا مقربًا من روزا مدى حياتها، بعد أن أسسا سويًا «الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمملكة بولندا وليتوانيا» كحزب معارض للاتجاه الاستقلالي «القومي» للحزب الاشتراكي البولندي، ولبراعة روزا وشغفها بالكلمات والكتب أجادت التحدث والكتابة بأربع لغات بتمكن، حيث كانت تتقن الروسية والبولندية والألمانية واللاتينية واليونانية القديمة وإلى حد أقل تعلمت الفرنسية والإيطالية والإنجليزية، كما تعرفت على الأعمال الأدبية المهمة في أوروبا، ما جعلها متحدثة مفوهة ذات حب كبير وقدرة على اختيار بارع للكلمات. وحين انتقلت إلى ألمانيا أكملت سعيها في مجال السياسة بعد حصولها على الجنسية الألمانية عقب زواج ظاهري، كما ارتبطت معظم خطاباتها ومحطات حياتها السياسية بالأحداث والأحزاب في ألمانيا بُعيد انتقالها وحتى مقتلها.
حرية المرأة هي مشهد الحرية الاجتماعية لكن لا تقاتلوا من أجل النساء فقط دعونا نحارب لتحرير العالم لمنح الشباب مستقبلا وللشيخوخة أمانا
روزا لوكسمبورغ
نضالها وتميزها الفكري
من بين كوكبة اليساريين تميزت روزا بصلادتها وقدرتها على مقاومة شتى أصناف الانتقادات والنبذ الاجتماعي والسجن، ولم يثنها ذلك بل زادها ألقًا وثباتًا حتى إنها استمرت في دعمها ثورات البروليتاريا «العمال» من وسط زنزانتها.
أحبت روزا بإخلاص عميق رفاقها في كل بقاع الأرض وسعت لإيصال مشاعرها الخالصة في عملها الدؤوب وكفاحها من أجل ما آمنت به دومًا «المساواة الاجتماعية والحرية في التفكير» بغض النظر عمّن تكون دون أي تمييز طبقي، دون أي قيود لمن لا ينتمون للجماعات السياسية والاجتماعية وبيقين خالص بأحقية الكادحين من العمال في حياة عادلة، وبأحقية المرأة بمزاحمة الرجال في كل المجالات، وبحق الشعوب بالسلام والحرية، ونادت لوكسمبورغ حتى مماتها بأهمية تثقيف جميع العمال سياسيًا حتى يستطيعوا تكوين وعي كامل بضرورة الوصول إلى قانون يعهد بحياة متساوية دون حكم طبقي، أو اجتماعي كان، أو سياسي، وإن اقتضى بها الأمر محاربة ورفض كل من يمثلون تلك الفوارق حتى اليساريين منهم.
وكانت روزا على استعداد دائم لانتقاد ومحاربة أشكال الديكتاتورية والتفرقة واعتبرت حق التفكير وممارسة العمل السياسي أمرين لا مساومة فيهما، ولم تكن روزا ناقدة للرأسمالية ومناهضةً لها وحسب، بل قدمت أطروحات لبدائل مقنعة لها. ووصفت روزا في أحد أكثر خطاباتها دفئًا وهو الخطاب الذي وجهته لمناصريها من المستقبل وصفت روزا فيه حياتها بالمعركة، حيث عاشت تحارب مختلف الأعداء متخطية الجميع، بخطى حثيثة حاربت روزا الإعاقة الجسدية لتجد نفسها في مواجهة الإعاقة. وكونها امرأة يتوجب عليها أن تتصرف وفق القواعد التي تغلف بها السيدات تصرفاتهن ليصبحن مقبولات في المجتمع فتهتف قائلة «حرية المرأة هي مشهد الحرية الاجتماعية لكن لا تقاتلوا من أجل النساء فقط دعونا نحارب لتحرير العالم لمنح الشباب مستقبلًا وللشيخوخة أمانا» ولم تسلم روزا كغيرها من أصولها اليهودية على الرغم من أنها كانت بعيدة كل البعد عن التوجه الديني، وفي خضم معاركها التي بدأت تقاتل فيها لأجل رفاقها من البروليتاريا، لم يكن مقدرًا للفكر البشري أن تعيش روزا لإثرائه.
ورغم ازدراء روزا للقواعد التي كانت تفرض على الفتيات وكيفية تصرفهن إلا أنها امتثلت لها في سبيل الوصول إلى المعارف والعلوم التي سلبت عقلها ولبها، وخيبات متجددة غمرت حياة فتاتنا الاشتراكية وعبرت عن خيبة الحب بقولها «لم تكن السعادة أبدًا خيارًا» مختزلة كل المشاعر التي قد تصفها آلاف الكلمات في هذه الجملة القاتمة، معللة أنها لم تكن لتعيش السعادة بينما يعاني شعبها أمام ناظريها، وتسترسل روزا في رسالتها المؤثرة لرفاقها من المستقبل في وصف بشاعة الحرب التي لطالما أولتها جل نداءاتها واهتمامها متمنية عالمًا مسالمًا «كيف يمكنني أن أكون سعيدة عندما أنظر إلى المستقبل وكل ما يمكنني رؤيته هو ضوء الدمار القاتم، تدمير الحرية، تدمير البشرية».
في نهاية خطابها تودعنا روزا بشاعرية تجعلنا راغبين في عناق كلماتها التي ألهمتنا السعي بخطى حثيثة لحياة أفضل فتقول «للتخلص من الحواجز الوطنية، للتخلص من الجشع، والكراهية، والتعصب، دعونا نكافح من أجل عالم العقل، عالم حيث العلم والتقدم سوف يؤديان إلى سعادة جميع الناس، إنني أؤمن بكم وسوف أبارك لكم دائمًا كل الخير، المخلصة لكم روزا».
كانت لوكسمبورغ شخصية مُذهلة بتحرّر أفكارها وبتفرد وتعدد المواهب في شخصيتها، وقد عاشت وناضلت في مرحلة تاريخية، لها أثرٌ كبير على اليسار السياسي. ولِاتقاد فطنة روزا سبقت آراؤها زمانها وهذا ما جعلها لا تجد صدى كبيرًا في الحركة الاشتراكية في القرن الماضي. ولحسن حظ الاشتراكية بشخصية كروزا حيث يعد نهجها اليوم منارة لليسار السياسي.
والاشتراكية من منظور روزا لا تعني أن يقوم إنسان ما بمجهود لأجل غيره، ولم تكن تعتبرها هبة من حزبٍ ما للمُضطهدين والمُستغَلين. فتُعرّف الاشتراكية وممارساتها على أنها نتيجة للحراك المشترك، الإرادي والواعي لكل الطبقات والشرائح المُضطهدة والمُهمّشة. وقد كتبت عام 1904 بأنّ هذا الحراك هو «الأوّل من نوعه في المجتمعات الطبقية، الذي يستند بنحو مستمر وفي كلّ لحظة عينيّة على التنظيم وعلى النشاطات المستقلة والمباشرة للجماهير». وقد رأت في الأحزاب والسياسيين المحترفين جزءًا من هذا الحراك وأنّ أحد واجباتهم هو التثقيف السياسي وبناء الهيكلية التنظيميّة ولا جدوى ترجى، برأي لوكسمبورغ، من المطالبة بالاستقلال البولندي في ظل النظام الرأسمالي لأن من شأن ذلك أن ينقل استغلال العمال من يد البرجوازية الروسية إلى نظيرتها «الوطنية» البولندية. فالقمع الوطني لن يتوقف إلا بسقوط الرأسمالية والتأكيد على التباينات الوطنية، باعتباره هدفًا للنضال الاشتراكي، قد يضعف التضامن الأممي بين البروليتاريا ويؤدي بالتالي إلى دفع عمال العالم في سياقات نضالات وطنية ميؤوس منها. وتلك كانت واحدة من نقاط الخلاف الكبرى مع ثوريين آخرين، على رأسهم لينين.
السجن والموت
أصبحت روزا عضوًا في الحزب البولندي الاشتراكي الذي صار عضوًا في الأممية العمالية في عام 1896، بل وصارت روزا واحدة من شخصياته الرئيسية وكاتبة اشتراكية «معترفًا بها». وبعد تقديم أطروحتها الأكاديمية انتقلت روزا إلى ألمانيا، البلاد التي ظهرت فيها، آنذاك آمال كبيرة للحركة الاشتراكية الدولية، ثم انضمت إلى الحزب الاشتراكي الألماني الذي كان ساحة نقاش خصب وصاخب بين الإصلاحيين والثوريين.
وسرعان ما انشقت روزا عن الحزب الاشتراكي الألماني وقطعت علاقتها به، كما وجهت نقدًا لاذعًا لأطروحات لينين ورفاقه حيث رفضت ما آلت إليه الاشتراكية وبين الأهداف السامية لها فوصفت «الديكتاتورية الاشتراكية» وتقييدها الحريات وإلباسها قوانين مقيدة «الحريات العامة»، قائلة «الديكتاتورية الاشتراكية ألا تتراجع أمام أي وسيلة إكراه بهدف فرض تدابير معينة لصالح المجتمع العام»، وتؤكد روزا أنه «بدون حرية غير محدودة للصحافة وبدون حرية مطلقة للتجمع وتكوين الجمعيات، من غير الممكن تصور تحقق لسيطرة الجماهير الشعبية الواسعة» وأن «الحرية هي دائمًا حرية ذلك الذي يفكر بشكل مغاير».
تصرخ عزيزتنا روزا ببسالة «تسقط الحرب. تسقط الحكومة»
ومن سوء طالع روزا أن قُبض عليها في بولندا حين قررت العودة للوطن في 1905 -بعد الثورة التمهيدية الروسية- ممتلئة بالحنين والحماس الثوري. ولكنها تمكنت من الخروج من السجون البولندية بفضل جنسيتها الألمانية، وفور عودتها قبضت عليها السلطات الألمانية، وتمت محاكمتها بتهمة التحريض على الثورة لتقضي شهرين في السجن، حيث اعتقلت روزا مرات عديدة وزج بها في سجون ألمانيا في مدن عديدة كبرلين، وفرونكة، وفروتسولاف. لتقع حريتها تحت نير المخاطر والسجون.
نادت روزا بإيقاف الحرب وعارضت بشدة التحشيد في ألمانيا للحرب العالمية الأولى 1914، وأصدر أثر خطاباتها المنددة بالحرب قرار حبس بحقها في عام 1914، كما نشرت منشورًا مناهضًا للحرب العالمية تحت الاسم المستعار «يونيوس» الذي اشتهر لاحقا باسم كراسة «يونوس» وقد انضمت بعدها بعام إلى كارل ليبكنشت ورفاقه من مناهضي الحرب من الاشتراكيين الديمقراطيين مشكلين مجموعة «الأممية» التي انبثق منها فيما بعد رابطة سبارتاكوس والتي اختير اسمها تيمنًا بالعبد الروماني الثائر الأشهر سبارتاكوس. ويعد كارل وروزا من أهم ممثلي المواقف الأممية لمناهضة العسكرة في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وإثر سقوط الحكم القيصري الروسي رحبت روزا بالثورة الروسية وهتفت لها ومع ذلك لم يثن هذا روزا عن نقدها للسياسات البلشفية الخاطئة مجسدة ذاتها الثورية في محاربة كل مالا يتفق مع مفهومها للعدالة الاجتماعية والحرية. جعلت الخطابات الجريئة في مناهضة للحرب من روزا محط أنظار السلطات واستيائها مما زاد من حدتها تجاه تحركات روزا بين الأعوام 1916-1918.
فعلت أعباء الحرب مع الاشتراكيين ما فعلته فأثرت بشكل كبير على تفكير غالبية أعضاء الحزب الاشتراكي الألماني لتجعلهم يصوتون بالموافقة على الاعتمادات المالية المقررة لخوضها كما كان حال نظرائهم الفرنسيين بعد اغتيال جان جوريس، وهو ما دفع بروزا إلى تأسيس «الرابطة السبارتاكية» مع ليبكنشت وثلة من الرفاق الاشتراكيين الديمقراطيين كما ذكرنا آنفًا. وحين قبض على ليبكنشت في أيار 1916 أثناء تظاهرة مناهضة للحرب الطاحنة المدمرة كانت عزيزتنا روزا تصرخ ببسالة «تسقط الحرب. تسقط الحكومة» وبمثل ما حدث مع ليبكنشت وضعت روزا تحت الرقابة قبل أن يقبض عليها هي الأخرى.
وتتمكن روزا بمشيئة الأقدار من الخروج من السجن مستغلة اضطراب الشارع الألماني بعد هزيمة السلطة الحاكمة آنذاك ووصول الحزب الاشتراكي إلى سدة الحكم في ألمانيا، وبينما كانت أحلام السبارتاكيون قد علت السماء يقررون إعادة تدوير التجربة الروسية للاستيلاء على السلطة من قبل «مجالس» العمال والجنود الذين كانت تزدهر في البلاد، فيؤسسون في أيلول 1918 «الحزب الشيوعي الألماني». وبعد عدة أشهر، وتحديدا خلال ليلة 5 – 6 كانون الثاني 1919، يقدم السبارتاكيون على محاولتهم «الانقلابية» لكنهم يفشلون. وتشير بعض المصادر أن وزير الداخلية الاشتراكي غوستاف نوسكي قام بالتعاقد سرًا مع ميليشيا يمينية متطرفة تقوم بالقضاء على روزا ورفاقها، مما أدى إلى مذبحة قتل فيها من قتل وأعدم كل من سلّم نفسه للسلطات. يتخفى العدو في سترة الصديق ولا نجد بدًا من أن نرثي جماعة «سبارتاكوس» المغدورة، وعزاؤهم أن اسم الرابطة خلد تاريخيا بخلود روزا، وتعيد مأساتهم إلى الأذهان، وما حصل سابقًا خلال «الإخفاقات التاريخية» الأخرى مثل كومونة باريس حيث يتولى الاشتراكيون القيام بالأعمال الدنيئة لحساب القوى الرأسمالية للقضاء على كل تمرد اشتراكي وهو تشابه ألمحت إليه روزا نفسها.
مؤلفاتها وأبرز خطاباتها الأثيرية
حين تم تأسيس رابطة سبارتكوس بعيد انفصال روزا ورفاقها عن الحزب الاشتراكي الألماني قالت روزا في شرح لأسباب التأسيس أنه «لا يوجد علاج آخر، ولا مخرج آخر، ولا خلاص آخر غير الاشتراكية. إن الثورة العالمية للبروليتاريا هي وحدها القادرة على إحلال النظام في هذه الفوضى، ومنح الجميع العمل والخبز، ووضع حد للآلام المتبادلة بين الشعوب، وإحلال السلام والحرية والحضارة الحقيقية للإنسانية المتهالكة… يجب أن يحل العمل التعاوني محل العمل الأجير والهيمنة الطبقية، ويجب ألا تكون وسائل العمل بعد اليوم حكرًا على طبقة، بل أن تغدو ملكًا عامًا للجميع. لا مزيد من المستغِلين أو المستغَلين!»، وانتهى خطابها بالجملة التي بقيت شعارًا لكل اشتراكي «فإما الاشتراكية أو السقوط في البربرية».
ولروزا مؤلفات عديدة مثل: ما أصل الأول من أيار؟ وكتاب الإضراب الجماهيري الذي يعد أشهر مؤلفاتها وقد كتبت كذلك الاقتصاد السلعي والعمل المأجور، و ما هو الاقتصاد السياسي؟، و المجتمع البدائي وانحلاله، وفي برنامج سبارتاكوس، كما تُرجم كتابها الاقتصادي اتفاقيات التبادل الحر اتفاقيات استعمارية ضد الشعوب إلى العربية، وإصلاح اجتماعي أم ثورة، وهو ما قررنا نفض الغبار عنه لنوفيه حقه من الأهمية التي يناظر بها أهمية كتابها الإضراب الجماهيري.
في سماء كتيب إصلاح اجتماعي أم ثورة
كتبت روزا كتاب إصلاح اجتماعي أم ثورة، ردًا على مقالات برنشتاين التي دعا فيها إلى التخلي عن النضال الطبقي وعن فكرتي انهيار النظام الرأسمالي واستيلاء البروليتاريا على السلطة وكان برنشتاين يتحرك بعيدًا عن أفكار الماركسية الكلاسيكية. وتظهر جليًا في هذا الكتاب القصير شخصية روزا المجادلة العنيدة وحرصها الماركسي فترى روزا أن «مفهومه -أي برنشتاين- لمسيرة التنمية الاقتصادية لا يتوافق مع النظرية الماركسية لفائض القيمة، لذلك، تخلى برنشتاين عن نظرية القيمة وفائض القيمة، وبهذه الطريقة تخلى عن النظام الاقتصادي لكارل ماركس». وقد كانت مقالات برنشتاين بنظر روزا مشككة ومبعثرة لعديد من الأفكار الماركسية الرئيسية، وقد أشار برنشتاين إلى أن التحول الثوري للمجتمع لم يعد مطلوبًا حيث يرى أن الرأسمالية قد قاومت واستمرت بشكل ما وعلى خلاف توقعاتهم وأن لديها القدرة على حل تناقضاتها.
ويثير برنشتاين حنق روزا وغضبها لخيانته للحركة بقولة «الهدف النهائي، بغض النظر عن ماهيته، ليس شيئًا. الحركة هي كل شيء». حيث يعتقد بكون الحركة الاشتراكية والمنظمات العمالية، كنقابات العمال، ليست أسلحة لتعزيز النضال من أجل الاشتراكية ولكن كأدوات لترويض الرأسمالية وقد نقلت روزا عنه تعريفه الصادم مستنكرة ما اعتبرته خيانة للحركة وسعت في كتيبها لإعادة صياغة المفاهيم الماركسية بشكل مبسط في سعي منها لتثقيف وكسب عمال جدد للحركة العمالية.
وتجادل روزا بعنفوان صلب «يظهر برنشتاين كأداة غير واعية محددة سلفًا، تعبر بواسطتها الطبقة العاملة الصاعدة عن ضعفها اللحظي، لكنها، عند الفحص الدقيق، تتجاهلها بازدراء واعتزاز» ومن الجلي أن لوكسمبورغ كانت تعتقد بوجوب تحدي برنشتاين وأولئك الذين احتشدوا حوله، لكنها كانت ترى أيضًا وبوضوح أن مشكلة الإصلاحية، أو الانتهازية كما وصفتها، هي مجرد مشكلة أيديولوجية آملة أن يتلاشى الإصلاحيون وأن يواصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي السير على الطريق الصحيح بعد أفولها من خلال إعادة تأكيد الماركسية. وما لم يكن واضحًا بالنسبة لها هو مدى امتلاك الإصلاحية لقاعدة مادية حقيقية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. بأسى بالغ صرحت روزا «ذهب العفن عميقا» مشيرة إلى انصياع الاشتراكيين وتبعيتهم للسلطة الرأسمالية. ومن الصادم حينها أن ما وصفته روزا بالعفن قد تجذر عميقًا ليصل لذروته بعد نشر الكتاب بعقدين، حين استسلم الحزب الاشتراكي الألماني بالكامل للدولة الرأسمالية بعد أن دعمت الحرب العالمية. في أعقاب تلك الخيانة، تُركت لوكسمبورغ وعدد قليل من الثوريين الألمان بمفردهم تقريبًا لمحاولة إعادة بناء المنظمة الثورية وسط أحداث متسارعة للحرب العالمية، وقد كان فشل الثورة الألمانية نهاية الحرب نهاية متوقعة لعدم وجود حزب اشتراكي مستقل.
يبقى السؤال الذي تطرحه لوكسمبورغ حول ما إن كانت الاشتراكية إصلاحًا اجتماعيا أم ثورة؟ مهمًا في تأكيد الحجة الأساسية حول كيفية تحدي الرأسمالية. حيث تبدو المنظمات الإصلاحية اليوم مفلسة. ومع ذلك، تظل الأفكار الإصلاحية هي السائدة في رؤوس العمال. وتعد إعادة قراءة جدال لوكسمبورغ أداة مفيدة لنا جميعًا حيث ننخرط في المناقشات التي تجري اليوم في كل مكان عمل وجامعة حول أفضل السبل لتحدي الرأسمالية فدعوة لوكسمبورغ الواضحة للثورة تخاطب الملايين اليوم أكثر من الأمس.
كنت أكون وسأكون..
إن زرت برلين فلا تنسى أن تمر على تمثال روزا لكسمبورغ السياسية، والفيلسوفة، والثورية، وعالمة الاجتماع، والاقتصادية، والصحفية، والمحرِّرة، التي لقيت حتفها مغتالة بنيران الأعداء وقد ارتدوا أثواب الأصدقاء، وإن مررت صدفة من أمام منزل طفولتها ولاحت لك لوحة كتب عليها «هنا ولدت الرفيقة روزا في بلدة زاموي- بولندا»، ولا تنس أن تقرأ أطروحاتها البارعة وتستلهم العبر من قضاياها وأن تتجول في تواتر ثابت مع صوت خطابها الحر بين كل متحف ومقر اشتراكي فمن المؤكد أنك ستمر بالنصب التذكاري الذي يحمل أحرف اسم روزا جوار قنال جسر برلين وستلوح لك روزا في احتجاجات مياهه، وتذكر حين تستمع للأوبرا وأغاني هوغو وولف -المؤلف الموسيقي النمساوي أحبت روزا أغنياته- أن موسيقى السلام التي حلمت بها العزيزة لوكسمبورغ ستصدح في أرجاء الكوكب يوما ما وأجزم أنه سيكون يومًا حافلا بالعمال الباسمين.
ستنهض الثورة مجددًا بكل قوة معلنة بصوتها الصاخب وسط فزعكم: كنتُ، أكونُ وسأكون.
روزا لوكسمبورغ
في ليلة قارسة فظة الملامح قبل قرن وثلاثة أعوام ماتت روزا لكسمبورغ الثائرة الماركسية ميتة قاسية، وانطفأ الصوت الأنثوي المدوي للحرية مخلفًا الضباب في ثنايا ألمانيا الاشتراكية، كتمت آخر أنفاس السبارتاكيون التي اعتادت أن تسحر قلوب الجماهير الثائرة من العمال، مخلفة جسدًا هائمًا لاح انطفاؤه في سكون قناة برلين لاندفير، عن عمر ناهز الثامنة والأربعين ليترك اليأس والتخبط يستحوذ على رفاقها العمال، ولتغفو قضيتها، غير واثقين من إمكانية استيقاظها مجددًا. فقتلت مغدورة دون أن تترك لها فرصة كتابة رسالة وداع لكل الذين راقبوها وانتظروا انتصارها لمعاناتهم.
نشرت روزا مقالها الأخير في 14 كانون الثاني 1919 قبيل مقتلها بيوم بعنوان «النظام العام يسود برلين» وتم القبض عليها في اليوم التالي، وبينما كانت ستنقل إلى السجن، ضربها العسكريون بالبنادق ووضعت في سيارة، قطعت بها مئة متر حين أطلق عليها جندي من المرافقين النار في رأسها فقتلت، وألقي جسدها في القناة النهرية لبرلين. واتهم بيان رسمي حشودًا من المواطنين الغاضبين بقتلها، فيما لقي ليبكنشت المصير ذاته في نفس اليوم. وعلى الرغم من أن أمر قتلة روزا ورفاقها قد افتضح فيما بعد، إلا أنهم كانوا يتمتعون بحماية الحكومة «الاشتراكية» وحصلوا في وقت لاحق على ثناء خاص من قبل النازيين. وختمت روزا لوكسمبورغ المقال الأخير بكلمات صارمة محذرة مما يحاك من مؤامرات لإخماد الثورة: «النظام العام يسود برلين! ويلكم من أتباع الحمقى! إن نظامكم مبني على الرمال. من الغد، ستنهض الثورة مجددًا بكل قوة معلنة بصوتها الصاخب وسط فزعكم: كنتُ، أكونُ وسأكون».