الملخص :
لقد كثر الحديث على مدار أكثر من سنتين حول الكارثة التي حلَّت بالعالم، وهي جائحة كورونا. وكثر الجدل والنقاش حول التحليل والتفسير المنطقي لما حدث، وتضاربت الأدوات الاقتصادية مع السياسية والعسكرية نتيجةً لذلك. كما كثر النقاش حول إمكانية وكيفية الخروج من هذه الكارثة. ومن هنا فقد حاولت هذه الدراسة أن تسلط الضوء على جانب مهم من جوانبها، ربما لم يغب عن الجميع ولكنه لم يُعط حقه من الاهتمام، وهو الوعي المجتمعي. فمن منطلقٍ علمي وقناعةٍ شخصية لدى الباحثة بأهمية الوعي المجتمعي وعلاقته بمعايير قوة الدولة، اعتقدت الباحثة أن المعايير الحقيقية لقوة الدولة ليست فقط المعايير المتعارف عليها من أدوات صلبة كالقوة العسكرية والقوة الاقتصادية، بل، وأدوات ناعمة، تتعلق بطبيعة المجمتع ودرجة وعيه. وقد حاولت الباحثة أن تستخدم حدث كورونا للدلالة على أهمية ما ستتطرق إليه في هذه الدراسة المختصرة، محاوِلةً أن تثبت في البحث نظريتها المتمثلة في أن قوة الدولة الحقيقية تكمن بالأساس في وجود مجتمع واعٍ، أو “مجتمع فاضل”، وكلمة “فاضل” هنا ليست محل نقض؛ لأن المقصود بها يطول شرحه، وهدف الدراسة بعيد عنه. وقد توصلت الباحثة من خلال هذه الدراسة إلى أن الوعي المجتمعي كان غائبًا عن أذهان أغلب الأنظمة الدولية باختلاف طبيعتها، ديمقراطيةً كانت أَمْ سلطوية، وهو ما أدَّى إلى فشل كلٍّ من تلك الأنظمة في حماية عنصره الأساسي المتمثل في الشعب، أي الركيزة الأهمِّ في تكوين الدولة. وتحاول الباحثة من خلال هذه الدراسة أن تسلط الضوء على أهمية هذه النقطة، وإثبات نظرية أن قوة الدولة الحقيقية تتجسد في مجتمعها وأن البناء الحقيقي للدولة يأتي من أسفل، أي من المجتمع ككل، بأفراده ومؤسساته المدنية، ثم ينتهي بامتلاك القوة كوسيلة وليس غاية.
الكلمات المفتاحية للدراسة:
القوة ، القوة الناعمة، الوعي المجتمعي، جائحة كورونا.
المقدمة:
ظل العالم منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخاصةً الدول الكبرى، في حالة صراع مستمر من أجل الوصول إلى ذروة القوة، حتى أصبحت القوة هي الغاية والوسيلة معًا، وسعت الدول جاهدة إلى تفسير كل الظواهر والأحداث السياسية من منطلق القوة، حتى غلبت هذه الصورة على التعاملات الدولية، فباتت علاقات الدول فيما بينها قائمة على القوة والإمكانيات العسكرية. ويعكس هذا النمط من التعامل الطبيعةَ الشرسة لسياسة القوة. وقد تعززت هذه الصورة شيئًا فشيئًا حتى غدا أسلوب التعامل بالقوة هو النمط السائد في العلاقات مع الدول، وهو الأمرُ الذي انعكس سلبًا على تعاطي الدول، أو الكثير منها، مع مجتمعاتها. فمن جهة، مارست الحكومات سلطتها وهيمنتها على الشعوب بطريقة تحت شعار سلطة القانون وهيبة الدولة، ومن جهة ثانية، ركَّزت في تعاملها مع الدول الأُخرى على معيار وحيد، وهو معيار القوة العسكرية. وبذلك تناست الحكومات، أو الكثير منها، أهمية القوة المجتمعية في دولها، وبالتالي أهمية بناء المجتمع الواعي الذي هو الركيزة الأهم في أية دولة. فأمسى الأمر وكأن الدول عليها أن تعطي كل اهتمامها لبناء ذاتها عسكريا من أجل حماية نفسها من الدول الأُخرى. وهكذا باتت كمن يبني حصنًا عاليًا لا يمكن لأحد أن يخترقه دون إيلاء العناية الكافية لما هو داخل الحصن. ويمكن الاستدراك بالقول هنا، إن رؤية الدول لمفهوم القوة قد تباينت أحيانًا ما بين دولٍ وأُخرى نتيجة اختلافات أيدولوجية، بمعنى أن بعض الدول حاولت المفاضلة ما بين الأدوات العسكرية والأدوات الاقتصادية فرجَّحت إحداها على الأُخرى، وهو ما قاد هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على المجتمع من خلال التساؤلات التالية:
ما هو مفهوم القوة؟
ما هي معايير القوة الحقيقة للدولة؟
ما هي علاقة القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة الناعمة بقوة الدولة؟
كيف أثَّرت جائحة كورونا على مفهوم القوة؟
كيف كشفت هذه الجائحة أهمية المجتمع من حيث درجة وعيه؟
ما علاقة الوعي المجتمعي بمفهوم قوة الدولة؟
ما علاقة القوة الصلبة (أي القوة العسكرية التقليدية)، والقوة الاقتصادية، وكذلك القوة الناعمة بالوعي المجتمعي؟
تحاول هذه الدراسة من خلال الإجابة على هذه التساؤلات، توضيح أهمية بناء المجتمع، وربطه بمفهوم القوة تحت فرضية مفادها أن قوة الدولة تكمن في قوة مجتمعها، لا بما تمتلكه من قدرات مادية، وبالتالي، فإن الهدف الرئيسي من الدراسة هو توضيح أهمية المجتمع، وتوضيح مفهوم القوة، وكيف أثَّرت جائحة كورونا على مفاهيم القوة المتعارف عليها. وقد حاولت الدراسة الوصول إلى نتائج من خلال استخدام وسائل البحث العلمية من وصف وتحليل، وباستخدام أدوات بحثية اعتمدت فيها على القراءة من مواقع إخبارية، وتقارير دولية، ومقالات، ودراسات حول مواضيع القوة بمختلف أشكالها (عسكرية واقتصادية وناعمة)، ودراسات حول مرض كورونا وتأثيره على معايير القوة، وكيف واجهت بعض الدول هذه الجائحة؟ وقد حاولت الباحثة توضيح وإبراز أهمية موضوع الدراسة، أي المجتمع ودرجة وعيه بغرض الوصول إلى نتائج علمية وعملية قد تفيد صناع القرار في المستقبل، وتساهم هي ومثيلاتها من الدراسات والأبحاث في تخفيف حدَّة الصراع الدولي والتسابق على التسلُّح، وربَّما تغيير مفاهيم القوة للوصول يومًا ما إلى عالمٍ خالٍ من الحروب.
ويمكن تقسيم هذه الدراسة من خلال النقاط التالية:
- مفهوم القوة : هي القدرة.
تعريف القوة بمفهومي الشخصي : هي القدرة على نيل أو استحقاق أو أخذ شيء بطريقة معاكسة للظروف المحيطة، أي إن هذه القوة عبارة عن اختراق للواقع (انتزاع، أخذ، إعطاء، تنفيذ، إبطال، موافقة، اعتراض،….) استحال انتزاعه في الظروف القائمة.
والقوة هي قيمة ثابتة باسمها ومحدداتها، ولكنها قيمة متغيرة بالنسبة لمن يمتلكها، أي إن قوي اليوم ليس بالضرورة أن يكون قوي الغد، والعكس مع ثبات مفهوم القوة كقيمة في حد ذاتها، والقوة لها محدد زماني ومكاني، أي إن القوة تحتاج إلى مكان وزمان كي تصبح قيمة ثابتة بمفهومها، أي إنها تتغير بتغير الزمان والمكان. وعندما نحاول أن نعرف القوة للدولة في إطار القدرة الداخلية للدولة في وسط مجتمعها تبدو لنا الأمور في الوهلة الأولى للمقارنة أن القوة هي معيار حقيقي في يد السلطة وأن الشعوب والمجتمعات ضعيفة أمام سلطة الدولة، ولو راجعنا علاقة الشعب مع الدولة، وتعمقنا في التاريخ الشعبي، لوجدنا أن الشعوب استطاعت لفترة زمنية كبيرة أن تفرض إرادتها الشعبية، عندما تثور. فالشعوب الثائرة بركان لا يهدأ، لقد تحطمت قوة تلك الدول والأنظمة أمام الشعوب، ففي تاريخ الدول سقط كثير من معاقل الأنظمة، حتى الأنظمة الملكية والتي بلغ عمر البعض منها قرونًا، وعندما جاءت الحركات الاستعمارية وسيطرت على الكثير من الدول، لم تتمكن من مواجهة سخط وثورة الشعوب، وهنا تتجلى قوة أخرى مختلفة، أُصنِّفُها من وجهة نظري القوة الحقيقية المحركة لكل القوى، إنها القوة المجتمعية التي يعتبر الوعي أهم محدد لها (وهنا نتكلم عن القوة الإيجابية للمجتمع)، تختلف درجة قوتها باختلاف مستوى الوعي لدى الشعوب، وتنمية الوعي يأتي من التعليم والتجربة والخلفية التاريخية للمجتمعات، ومؤشر درجة قوة الدولة من شفافيتها، الشفافية مؤشر على صواب السياسات التي تتخذها الحكومة، كلما كانت سياسة الأنظمة تتميز بالشفافية، والدولة شفافة في التعامل مع مواطنيها زادت نسبة الثقة بين المواطنين والدولة، وهو ما ينعكس في التصرفات الشعبية، الثقة تولد الطاعة التامة، والتأييد للسياسات الحكومية، فتصبح التوجيهات التي ترسلها الحكومة لمواطنيها عبارة عن رسائل موثوق بها تطاع فورًا، تتكتل وتتضافر جهود الدولة مع مواطنيها في مواجهة الأزمات، وقد تتنوع هذه الأزمات وتختلف، أسوأها هي الحروب، إذ يعتبر خروج الدولة بأقل الخسائر معيارًا أساسيًا لقياس معدل قوتها، وهي المضمار الذي تقيس فيه الدولة محدد قوتها، تصل ذروة هذا المحدد عند ردع هذا التهديد ومنع وقوع الحرب، وبالتالي فإن القوة من مفهوم التسلح ربما يعتبر المحدد المنطقي لقياس القوة، لكن لو طبقنا هذا المعيار على دولة مثل اليابان وحاولنا قياس قوة اليابان، لاكتشفنا أن معيار القوة لديها يرتكز على أساس اقتصادي، وبالتالي تظهر لنا قيمة جديدة للقوة.
ينمو الوعي المجتمعي من خلال التجارب، وتختلف التجارب التي خاضتها الشعوب، وبالتالي تختلف نتائج تلك التجارب، تجارب تنتج وعيًا إيجابيًا، وتجارب تكون نتائجها سلبية، وربما تجربة التنمية في كوريا الجنوبية أكبر دليل على الوعي الذي بلغه المجتمع الكوري ليحقق النهضة التي حققتها كوريا، ورغم محورية القوة واهتمام الدول ببلوغ ذروة القوة، إلا أن تركيز الأنظمة اتجه إلى تعزيز الأداة العسكرية أو الأدوات الناعمة (سياسية، اقتصادية، دبلوماسية)، وغابت معها القوة المجتمعية المتمثلة بالوعي. تعتبر القوة المجتمعية من أهم القوى التي يمكن أن ترتكز عليها جميع ماديات القوة، القوة المجتمعية ربما تجهض نظريات القوة التي تنظر إلى القوة من جوانبها المادية، وبالتالي فإن قوة الشعوب تكمن في مدى إدراك الشعوب واستيعابها لمتغيرات الحاضر، وتأقلمها مع قرارات النظام ودعم سياسات الدولة وتطبيق القوانين، بل إن الوعي المجتمعي يصوب السياسات التي تسلكها الأنظمة ويوجهها في حالة كانت هذه الأنظمة غير جديرة بالقيادة أو أنها توصف بالاستبداد، المجتمعات الواعية تدفع عجلة التنمية بكل جوانبها، وتحقيق الأمن والاستقرار وتعزيز الوطنية وغيرها من القيم التي تندرج تحت مصطلح الوعي وبالتالي، فإن قوة الدولة في وعي مجتمعها.
وفي هذه الدراسة سوف نحاول توضيح أهم مفاهيم القوة الحديثة منها:
- القوة العسكرية ( سباق التسلح ) :
منذ بزوغ مفهوم القوة في العالم ظل تعريف هذا المفهوم محصورًا على القدرة في الدفاع بل والهجوم، فكانت مقومات هذه القوة تدور حول التطور العسكري، لقد خلفت الحربان العالميتان ذكرى سيئة، برز خلالها مفهوم القوة كغاية يجب بلوغها لا وسيلة لتحقيق غاية، فأصبح الفكر السياسي للدول مبرمجًا لبلوغ هذه القوة، برز خلال تلك الفترة مفهوم التسلح وسباق التسلح، وأصبح العالم منذ تلك الفترة إلى يومنا الحالي أشبَه بحلقة سباق تركض الدول خلف بعضها لتحقيق أكبر إنجازاتٍ عسكريةٍ، اختلفت أسباب تلك الدول وأساليبها، لكن الهدف كان واحدًا، وهو بلوغ ذروة القوة، لعبت خلالها التوجهات السياسية للأنظمة دورًا كبيرًا في اختيار الطريقة والأسباب، وبالرغم من اختلاف الأسباب لبلوغ القوة إلا أنها لم تخرج من الإطار الشعبي أو المجتمعي، وبمعنى آخر سعت تلك الدول إلى بلوغ القوة إما للحفاظ على كيانها الدولي كدولة ضمن إطار المجتمع الدولي، أو لتحافظ تلك الأنظمة على بقائها في مواجهة مجتمعاتها الداخلية، وبالتالي فإن كلا السببين يلتقيان في نقطة واحدة وهو المجتمع، سواء أكانت هذه الدولة في حرب خارجية تواجه مجتمع دولة أخرى كما حدث في العراق، فلسطين، سوريا، واليمن، أو حرب داخلية تواجه الدولة مجتمعها الداخلي كما يحدث في كوريا الشمالية وبعض الأنظمة التسلطية، أي إن هذه القوة في الأخير سوف تسلط في وجه مجتمع ما، فتلك الأنظمة توجه قدراتها القتالية في مواجهة الأنظمة السياسية الأخرى، فما إن تنهار تلك الأنظمة حتى توجه أسلحتها في وجه تلك الشعوب.
جاءت بعدها الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا “وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أن سباق التسلح لم ينته، فقبل انتهاء الحرب الباردة عام 1991 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1987 معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) للحد من نطاق ومدى وصول جميع أنواع الصواريخ، تلتها معاهدة ستارت 1 في عام 1991، ومعاهدة ستارت الجديدة في عام 2011، كان هدفها في الظاهر الحد من قدرات الأسلحة البالستية لكلا البلدين”[1]، لقد انتهت تلك المعاهدة بعد انسحاب الولايات المتحدة منها لتبدأ بعدها رحلة جديدة من سباق التسلح بين الدول، سباق كان على حساب الاقتصاد والبنية الأساسية للدولة وعلى حساب مجتمعاتها.
“استمرت حمى التسلح في عديد من الدول، منها الهند وباكستان وكوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية وإيران والصين، وإسرائيل، فبينما تتصدر الولايات المتحدة العالم في نفقات التسلح تليها ألمانيا ثم الصين حسب إحصائيات تقرير التوازن العسكري الذي يصدر سنويًا عن مركز الدراسات الاستراتيجية الدولي (آي آي أس أس) سنة 2019 “[2]. وعندما كانت الدول العظمى في سباق التسلح، لم تكن الدول النامية بعيدةً عن هذا المشهد، بل كانت في طليعة الدول المستوردة للأسلحة، حيث “ينفق العالم ما يقرب من 3 تريليون دولارًا سنويًا على النفقات العسكرية، وتدير الولايات المتحدة الجزء الأكبر من تجارة الأسلحة في العالم – حوالي 79% وفقًا للأرقام التي جمعتها وزارة الخارجية الأمريكية حسب تقرير الإنفاق العسكري العالمي وعمليات نقل الأسلحة الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في ديسمبر 2019 وهو أحدث تقييم أمريكي للإنفاق العسكري العالمي من عام 2007 إلى عام 2017”[3].
وبينما الدول العظمى تعزز من ترسانتها المسلحة انهمكت الدول النامية بالاستيراد، تأتي الدول العربية في طليعة الدول المستوردة، وليس غريبًا هذا على أنظمة تحتكر القوة فقط للسيطرة على شعوبها “وقد بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة العربية نحو ترليون دولار في السنوات ال 10-15 الأخيرة، وهو رقم هائل بكل المعايير، سيما لمنطقة تفتقر إلى الكثير من مقومات التنمية الأساسية، وتتصدر السعودية بشكل خاص والخليج بشكل عام الدول العربية في هذا القطاع، وقد ارتفع الإنفاق الدفاعي في العالم في عام 2019 بنسبة 4% عما كان عليه في عام 2018، وتعد تلك أعلى زيادة سنوية خلال عقد كامل حسب تقرير التوازن العسكري الذي يصدر سنويًا عن مركز الدراسات الاستراتيجية الدولي (آي آي أس أس)” [4].
وليست فقط الأنظمة في الدول النامية من تحاول تعزيز سلطتها على شعوبها بالقوة، كذلك الدول المتقدمة تحاول تعزيز قوتها في سبيل حماية نفسها من الكيانات الخارجية، “وقد زاد الإنفاق الدفاعي الأوروبي أيضا ليصل إلى مستويات لم تشهدها الدول الأوروبية منذ الأزمة المالية العالمية، إذ وصلت نسبة الزيادة إلى 4.2% مقارنة مع عام 2018 لتعكس كل هذه الزيادات في الإنفاق الدفاعي عودة التنافس بين الدول، والتسابق على التسلح في عالم متغير مليء بعدم اليقين”[5].
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه النقطة هل استطاعت تلك الدول (صاحبة القوة) بكل ترسانتها وقوتها أن تبيد مجتمعها على المستوى الداخلي، أو مجتمعات تلك الدول المعتدى عليها؟
وهنا نعود إلى نقطتنا المحورية وهي المجتمع وعلاقته بنظرية القوة، هل يعتبر المجتمع الواعي مصدرًا من مصادر قوة الدولة، وما مدى قيمة هذا المجتمع في ظل وجود دولة طبيعية الكيان والأركان والوظائف ؟
لقد سعت الدول إلى زيادة قوتها العسكرية وإن اختلفت نسبة الاهتمام من نظام إلى آخر، فجميع الدول العظمى حرصت التركيز على الجانب العسكري، وأهملت جوانب أخرى، حتى الدول النامية التي لا تملك القدرة على تصنيع الأسلحة، اتجهت إلى عملية شراء الأسلحة وخصصت ميزانيات هائلة في سبيل الحفاظ على كياناتها من مجتمعاتها، وبالرغم من كل تلك التدابير بقيت المجتمعات قائمة وانتهى كثير من تلك الأنظمة التي حرصت على تحويط نفسها بقوة عسكرية مسلحة ومجهزة، لكنها انتهت مقابل ثورات تلك الشعوب عليها، وأبرز مثال على هذا الثورات الأوروبية وثورات ما يسمى بالربيع العربي، أو الثورات ضد الحركات الاستعمارية، كما حدث في الهند وجنوب أفريقيا، فقد فرضت تلك الشعوب استقلالها أمام ترسانة أسلحة أكبر قوى دولية.
- القوة الناعمة :
لقد ظهر مفهوم القوة الناعمة للمرة الأولى في عام 1990م في مقال لجوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، وتنعكس قدرات الدولة في تحقيق هذه الأداة على تصرفات مجتمعها ، فنقل الثقافات والترويج لها ونشرها يحتاج مجتمعات متماسكة، لأن الوسط الداخلي يؤثر على طبيعة السياسة الخارجية للدول وبالتالي فإن قضية مثل قضية القدس لها زخم شعبي لدى المجتمعات العربية، هذا الزخم يؤثر على سياسة الأنظمة العربية فكانت الدول العربية تحدد سياستها تجاه الكيان الإسرائيلي من منطلق الحرص على عدم إثارة السخط الشعبي.
ومع ذلك “فإن مفهوم القوة ارتبط بالممارسات الإكراهية، التي تجبر الآخرين على التصرف بطريقة معينة؛ أما مفهوم القوة الناعمة فيفتح الباب لدراسة القدرة على التأثير في سلوك الآخرين عبر الجاذبية والاحتواء، وليس عبر الإكراه”[6].
وقد شهد مفهوم “القوة الناعمة” صعودًا بعد نهاية الحرب الباردة، رغم أن ما يعبر عنه كان موجودا قبلها و أثناءها، والذي يتجلى في استخدام أدوات الإقناع والاستمالة وليس الضغط والإكراه في إدارة العلاقات الدولية، كأدوات الدبلوماسية الشعبية وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية أو توظيف المعونات الاقتصادية والمنح الدراسية في إدارة العلاقات الخارجية “[7].
والقوة الناعمة كمصطلح تناوله الكثير من الكتاب محاولين شرح المفهوم المبني على مشاهدات لهم من الواقع ومن “أبرزه ما كتبه ستيفن لوكس في مجال النظرية السياسية منذ العام 1974 في كتابه الشهير “القوة: رؤية راديكالية”، وذكر فيه القوة الناعمة باعتبارها القدرة على تحديد الأجندة، وتوجيه دفة العلاقة الدولية، والتأثير النهائي في صياغة الأطراف المختلفة والقوة الناعمة مفهوم مركب، فالنعومة في الحقيقة أصعب في تعريفها من الصلابة، وعلاقتها بالتاريخ وبالذاكرة وبأبعاد النفسية الجماعية والثقافة أعظم أثرا من فكرة السيطرة والهيمنة والتحكم البسيطة الصريحة التي بشرت بها الحداثة وقامت عليها فلسفة الدولة القومية بعد صلح (وستفاليا) في أوروبا في القرن السابع عشر”[8].
والقوة الناعمة عندما تعمل منفردة لا يمكن أن يكون لها تأثير، فالقوة الناعمة هي نتيجة لمجموعة عوامل إذا ما توافرت وتضافرت أصبحت القوة الناعمة عاملًا مؤثرًا، القوة الناعمة هي عبارة عن انعكاس للقوة الاقتصادية والعسكرية والقوة الاجتماعية، فمثلا ” تعد القوة الاقتصادية والخبرة السياسية والزخم الفكري والأيديولوجي والعلمي والثقافي والإبداعي مقومات مركزية ومصادر للقوة الناعمة، لكن الذي يغيب أحيانا عن التحليل أنها كلها تٌبنى على أسس وموارد مدنية بالأساس، أي إنها ترتكز على قوة مجتمعية ولذا فإن خيار القوة الناعمة ليس خيارًا بسيطًا لصانع السياسة الخارجية، بل هو خيار استراتيجي لصانع القرار السياسي والسيادي، ولا شك أن نضوب موارد التمدن، وتشرذم القوى الاجتماعية، وملاحقة قوى التغيير وتغييبها تؤثر سلبًا على الإمكانات المدنية التي تستقي منها القوة الناعمة قوتها”[9].
القدرات العسكرية والاقتصادية هي من نوع القوة المادية التي يمكن قياسها بعدد القطعات العسكرية ومليارات الناتج والفائض الاقتصادي. مشكلة القوة الناعمة هي صعوبة قياسها بطريقة واضحة صريحة. القوة الناعمة هي شيء نشعر بوجوده، لكننا لا نستطيع قياسه أو الإمساك به[10].
وختامًا يمكن القول بأن “القوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون احتذاءه. انتشار الوجبات السريعة بعلاماتها التجارية الشهيرة من الولايات المتحدة لباقي أنحاء العالم يمنح أمريكا قوة ناعمة”[11]. وبالتالي كلما كان المجتمع قويًا ومتماسكًا استطاعت الدولة أن تستفيد من استخدام هذه القوة، وكان لها تأثير أكبر.
القوة الاقتصادية :
” يُقصد بها امتلاك الدولة للمقومات الاقتصادية الأساسية لنموها وتطورها، سواءً من الناحية التجارية، أو الصناعية، أو حتى على الصعيد الزراعي، أو على صعيد استغلال الثروات والمقدرات الطبيعية فيها، مما يُحقق لها الاكتفاء الذاتي، ويُحسن المستوى المعيشي للأفراد، ويحقق الرفاه الاقتصادي، ويرفع مستوى الدخل الفردي والقومي كذلك، إلى جانب إمكانية الاستثمار خارج البلاد، والمساهمة في حجم الإنتاج في السوق العالمي، وتحقيق مفهوم القوة السياسية، وحجز المكانة الاعتبارية بين الدول.”[12]
الأداة الاقتصادية ومدى قدرتها على التأثير على السياسات الدولية باعتبارها أحد أدوات القوة، لقد اتجهت دول كثيرة باتجاه تنمية وتفعيل هذه الأداة، ويمكن إدراج الأداة الاقتصادية بأنها المحرك الأول للسياسات الدولية، فكل سياسات الدول وتوجهاتها يحركها الجانب الاقتصادي، فخط تفاعل الدول مع بعضها تحكمه معايير معينة أهمها المعيار الاقتصادي، ويأتي ترتيب الأداة الاقتصادية في المرتبة الثانية بعد الأداة العسكرية، فالصين من الدول التي أوْلَت الاقتصاد أهمية كبيرة، وكَرَّسَت جهودها في سبيل تحقيق تنمية اقتصادية، لقد وصل العملاق الصيني إلى المقدمة، حتى أصبح الاقتصاد معيارًا من معايير قياس قوة الدولة، “إن نجم هذه التحولات بلا منازع هو الصين التي حقق اقتصادها معدلات نمو قاربت 11% العام الماضي، وهي الأكبر منذ منتصف التسعينيات، بينما بلغ فائضها التجاري نحو 177 مليار دولار”[13]، لكن العملاق الصيني يتعرض لضربةٍ قاسيةٍ، فبعد ظهور فيروس كورونا الذي ألحق ضررًا كبيرًا بالاقتصاد الصيني والعالمي، حيث أدى تفشي فيروس كورونا إلى كارثة اقتصادية كبيرة ،ومن أجل محاولة الإحاطة بالمرض حاولت بعض الدول فرض قوتها في اتباع سياسة الوقاية ومحاولة احتواء المرض، لذلك ظهور مرض كورونا أعاد مفاهيم جديدة للقوة بعد أن عجزت عن احتوائه أقوى الدول في العالم، بقوتيها الاقتصادية والعسكرية، بل إن الدول العظمى كانت أكثر تضررًا، وكان أسرع انتشارًا بالرغم من حزم وشدة الإجراءات التي اتخذتها الدول من سياسات لضبط حركة المواطنين، فالصين كانت الأشد حزمًا في التعامل مع مواطنيها، ويعتبر العامل الاقتصادي عاملًا مساعدًا للدول في اتخاذ سياسات لمكافحة المرض، فالدول المتقدمة اقتصاديًا تكون إمكانياتها عاليةً جدًا، ورغم ذلك أدى انتشار الفيروس إلى توقف الآلاف من المصانع عن الإنتاج وانخفضت حركة التصدير والاستيراد بين الدول، وأعلنت الكثير من الشركات إفلاسها، وانتشرت البطالة في أنحاء العالم.
- مرض كورونا و الوعي المجتمعي:
- مرض كورونا ( كوفيد 19):
ما هو مرض كوفيد-19؟
“مرض كوفيد-19 هو مرض معدٍ يسببه آخر فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات تاجية. ولم يكن هناك أي علم بوجود هذا الفيروس الجديد ومرضه قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ ديسمبر 2019. وقد تحوّل كوفيد-19 الآن إلى جائحة تؤثر على العديد من بلدان العالم”[14].
لقد انتشر هذا المرض على مستوى العالم وخلق حالة من الرعب والاستنفار في جميع أنحاء العالم، فقد أُطلِق عليه (الجائحة)، ربما كشف هذا المرض معايير جديدةً للقوة، وأنتج مفاهيم جديدةً للقوة بعيدةً عن المفاهيم المادية، يتجسد في المجتمع، المجتمع أو الشعب، الركن الأهم من أركان تعريف الدولة، المجتمعات الواعية، والثروة الأهم في الدولة، مجتمعاتٌ تدرك الخطر وتعرف كيف تواجهه، مجتمعات تدرك تمام حقوقها فلا تتنازل عنها وتعرف واجباتها فتقوم بها، فتجربة تفشي مرض كورونا أثبتت أن المجتمعات التي تعاملت مع المرض بوعي وإدراك استطاعت احتواءه، وتخفيف انتشاره، فكل التجارب فشلت في إيجاد دواءٍ لهذا الفيروس، وبالتالي تم اختصار مواجهته على المواطن نفسه، وذلك عن طريق الوعي والوقاية بعد أن فشل الطب، وفشلت كل أدوات القوة في مواجهته، فالتجارب السياسية على مر التاريخ أثبتت أن كل أشكال القوة انتهت، بينما الشعوب والمجتمعات من الحقائق التي لا تفنى، فلا الاحتلالات ولا الحكومات الطاغية ولا أي جماعات مسلحة يمكن أن تنهي المجتمع، مهما بلغت قوة هذه الأنظمة.
بعض السياسات التي تم تنفيذها في سبيل مواجهة مرض كورونا:
بعد حلول كارثة كورونا على العالم اختلفت أساليب الأنظمة في مواجهة هذه الكارثة العالمية:
– الصين : وضعت الصين إقليم هوبي بأكمله بعدد سكانه البالغ 56 مليون شخص تحت الحجر الصحي، لقد اتخذت الصين سياسة قوية لمواجهة المرض، سياسة صارمة عكست من خلالها الحكومة الصينية مدى سلطتها وسطوتها، أي إنها سلكت طرقًا بعيدة عن الديمقراطية، وربما هي محقة في هذا النهج الذي انتهجته، ففي غياب المجتمع الواعي قد يحصل هذا وأكثر، وهنا أشَبِّه الدولة بالوالدين والمجتمع بالأطفال، فالطفل الواعي الناضج تخف قيود والديه عليه وربما تنعدم، بينما من هو صغير قد يكبله والداه في سبيل حمايته وحماية كيان الأسرة، فالدول تعمل جاهدة على تسليح نفسها بالقوة الصلبة لتحمي نفسها، وتتغافل عن المجتمع، فالمجتمع الواعي في زمن الكوارث هو قوة حقيقية.
– في أوروبا كانت إيطاليا هي الدولة التي اتخذت أشد الإجراءات ضد كورونا، حيث وضعت السلطات البلد بأسره رهن الحجر الصحي، وأغلقت جميع المتاجر، ما عدا متاجر الأغذية والصيدليات، وحظرت إيطاليا أيضا التجمعات العامة، وأُصدرت تعليمات للسكان بالبقاء في منازلهم. وعلى الراغبين في السفر أن يكون في حوزتهم وثائق تثبت أسباب سفرهم. كما أن المدراس والجامعات لا تزال مغلقة[15].
– وضعت السعودية القطيف تحت الحجر الصحي.
– أصدرت السلطات اليابانية أمرًا بإغلاق المدارس حتى إبريل/نيسان المقبل، واتُخذت إجراءات مماثلة في مناطق متعددة في الشرق الأوسط وآسيا[16].
- في بريطانيا طلبت بريطانيا ممن سافروا مؤخرًا عزل أنفسهم مدة 14 يومًا ومررت تشريعًا يسمح بالعزل الإجباري، ولكن مسؤولين قالوا إن الوقت لم يحن بعد لإغلاق المدارس[17].
- في كوريا الجنوبية التي يوجد بها ثالث أكبر عدد حالات إصابة بالفيروس في العالم بعد الصين وإيطاليا تقاوم السلطات بنجاح، دون إغلاق البلاد أو تطبيق الحجر الصحي للبلد بأسره، حيث تجري الحكومة فحوصًا لمئات الآلاف في الطرقات والشوارع وللسائقين في سياراتهم، كما تتابع الحاملين المحتملين للفيروس باستخدام الهواتف المحمولة وتكنولوجيا الأقمار الصناعية. ووصف الرئيس الكوري الجنوبي موون جيي الجهود التي تبذلها الحكومة بأنها “شن حرب” ضد الخطر الذي يتهدد الجميع، وهو محق في وصفه، أي إن العالم يمر بحرب من نوع جديد، ويبلغ تعداد كوريا الجنوبية نحو 50 مليون شخص، وهو ما يقارب عدد سكان إيطاليا، ولكن عدد الأشخاص في الحجر الصحي في كوريا الجنوبية يقل عن 30 ألف شخص، وتسجل كوريا الجنوبية انخفاضًا في عدد الحالات بصورة يومية، وتعي السلطات في كوريا الجنوبية أن الإجراءات المتشددة التي تتخذها الصين تخلق مشاكل ثانوية، مثل الضغط بصورة بالغة على النظام الصحي في ووهان، مما ساهم في زيادة معدلات الوفيات في المدينة، وقال هوانغ إن سول “تعي تمامًا ضرورة موازنة المساعي الصارمة لاحتواء الفيروس مع أثر تلك المساعي على تعطيل الاقتصاد والمجتمع”[18].
ففي زمن الكوارث تحاول الدول جاهدة التغلغل في أوساط المجتمع لتفعيل عملية الرقابة، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، لقد استطاعت الصين من وجهة نظر البعض التغلغل في مجتمعها رغم الكثافة السكانية التي يتصف بها المجتمع الصيني، وهذا ما جعل الصين محط إعجاب الكثيرين، “على الرغم من أن زعماء الدول الديمقراطية قد يكونون راغبين في تكرار التجربة الصينية، فإنهم لا يملكون السلطة والنفوذ للقيام بذلك”[19].
ومن وجهة نظري أن الأمر لا يحتاج ديكتاتورية لمكافحة انتشار المرض بقدر ما يحتاج خطوات حاسمة وقرارات من قبل الدولة، ومجتمع واعي يطبق، ويعتقد البعض أن نجاح الصين يكمن في سرعة الحكومة في التفاعل وسرعة الاستجابة من قبل المواطنين، “وقال بروس أيلوارد، كبير مستشاري رئيس منظمة الصحة العالمية، إن ردود فعل الدول لا يتم قياسها فقط بما إذا كانت ردودًا ديمقراطيةً أو سلطوية”. وقال أيضًا، الذي ترأس مهمة تقصي الحقائق في إقليم هووبي، إن العالم لم يعِ حتى الآن دروس التجربة الصينية. وقد أضاف أيلوارد لبي بي سي “ما نتعلمه من الصين هو أن الأمر الرئيسي هو السرعة. يمكنك السيطرة على أمراض الجهاز التنفسي، إذا تحركت بسرعة بالغة لاكتشاف الحالات وعزلها واكتشاف من تعاملوا معها عن قرب وعزلهم”[20].
لقد وضح بروس أيلوارد كبير مستشاري منظمة الصحة العالمية، أنه يجب على الناس إدراك الخطر من أجل العمل مع الحكومة، واعتبر أن المواطنين الصينيين كان لهم دور مهم ورئيسي في احتواء المرض ومنع انتشاره، واعتبر أن استجابة الناس للحكومة بدافع الخوف من المرض لا الخوف من الحكومة، وقال أيلوارد “الناس لم يخشوا الحكومة. الناس يخشون الفيروس ويخشون الإخفاق في مكافحته. لعبت الحكومة دورًا رئيسًا في تحديد الاتجاه، ولكنه بالتأكيد كان هناك تحركًا جماعيًا من الصينيين”[21]
- في أمريكا وجهت انتقادات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لعدم اتخاذ إجراءٍ حاسمٍ ضد الفيروس. بل إن بعض الإجراءات التي تم اتباعها كانت غريبةً نوعا ما، “قرار إلغاء الرحلات الجوية من أغلب دول الاتحاد الأوروبي، مع عدم إلغاء الرحلات الجوية من بريطانيا”.
- “ووجهت انتقادات لإيران لأنها لم تضع إقليم قم في الحجر الصحي رغم أنه مركز انتشار الفيروس في إيران. فقد اكتفت السلطات بإقامة نقاط طبية وطلبت من الناس عدم التنقل والسفر”[22].
- تستخدم أفغانستان ميثاق المواطنين، وهو برنامج شبكة الأمان الأكثر موثوقية في البلاد، للوصول إلى حوالي 13 مليون شخص في جميع المحافظات البالغ عددها 34، في المناطق الريفية والحضرية. ويساعد ميثاق المواطنين الحكومة على إرسال رسائل صحية للوقاية من كورونا بوتيرة وبسرعة واستكشاف طرق لتوجيه الأموال مباشرةً إلى المجتمعات المحلية والشرائح المستضعفة والأولى بالرعاية[23].
- – فرنسا أخطرت رسميُا المكتب الإقليمي لأوروبا التابع لمنظمة الصحة العالمية بثلاث حالات مؤكدة “إن العمل في الوقت المناسب أمرٌ أساسيٌ لاحتواء المرض في وقتٍ مبكرٍ”، كما شددت منظمة الصحة العالمية، مشيدةً بفرنسا لإخطار منظمة الصحة العالمية بسرعة وإصدارها بلاغًا عامًا سريعًا، قائلةً إنها لا تمثل فقط الخطوات الصحيحة إلى الأمام، ولكنها تجسد أيضًا “مثالًا على التعاون والتضامن العالميين”[24].
إجمالًا تسلط الدروس المستفادة من هذه التجربة على الوعي الاجتماعي والاستجابة المجتمعية، وتسلط الدروس المستفادة من الجوائح السابقة، بما في ذلك تفشي فيروس إيبولا (2014-2016)، الضوء على أهمية الاستجابة الاجتماعية لإدارة الأزمات والتعافي منها، ويأتي ذلك مكملًا ومتممًا للجهود الطبية. وتعلمنا أن الاستجابة تتطلب نهجًا يشمل المجتمع بأسره وكل طوائفه، مع طرح حلول من الحكومات والمجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص. وسيكون ذلك مهمًا للغاية الآن بالنسبة للسكان المعرضين للمخاطر والمستضعفين والأولى بالرعاية. وغالبًا ما تحتاج الاستجابة إلى أنظمةٍ راسخةٍ أو معروفةٍ لنقل معلوماتٍ دقيقةٍ وطرح حلولٍ للناس[25].
ومما لا شك فيه فقد تهاوت منظومة التسلح الأمريكية والأوروبية والعالمية أمام فيروس كورونا المجهري، وعجزت كل الأسلحة بما فيها الرؤوس النووية، بل حتى أعتى الجيوش العالمية من حد قوة انتشار الفيروس، وبدل أن نشاهد رؤوسًا نوويةً توجه ضد فيروس كورونا أصبحنا نشاهد مسدسات الحرارة توجه نحو جبهة كل إنسان يتحرك في الصين، وكاميرات الأشعة تحت الحمراء التي يمكنها الكشف عن الحمى، و مستشعر درجة الحرارة الدقيق من أجل الكشف عن أعراض الفيروس، وخوذات الرأس التي تكشف عن المصابين بالفيروس، لينتقل بذلك الصراع والتنافس من امتلاك أكثر الأسلحة تطورًا إلى من يمتلك تكنولوجيا مخبرية أكثر قدرةً، وأجهزة كشف ومنع انتشار الفيروسات أكثر سرعةً، وهو ما استوجب على الدول إعادة النظر في قصور معادلات الإنفاق على سباق التسلح، والتوجه أكثر إلى تعزيز معادلة “استغلال الفرصة” لوقف انتشار الفيروسات في العالم من خلال بناء منظوماتٍ دفاعيةٍ صحيةٍ قويةٍ، وإعادة التخطيط للمستقبل لتوقع احتياجات القدرة الإنسانية المستقبلية. [26]
الخاتمة
لقد حاولت دول كثيرة اتخاذ إجراءاتٍ منها سلطوية ومنها ما كان ديمقراطيًا، ولكنها بمختلف أشكالها فشلت في التعامل مع المرض، وبعد مرور وقت طويل على ظهور مرض كورونا وجدت الدول نفسها مضطرةً إلى ترك زمام الأمور قليلًا، أتاحت الدول الفرصة للمجتمعات أن تقرر مصيرها، وهنا يكمن الاختبار الحقيقي لوعي الشعوب، وهو ما كان يجب أن يكون منذ البداية، لكن الحقيقة تكمن في أن الشعوب ليست أهلًا لذلك، والدولة لا تملك الثقة في ذلك، لدرجة أن المواطنين اختصروا التزامهم بطرق الوقاية أمام عدسات الكاميرات، وفرق الشرطة التي تمر بشكل دوري، وهنا ظهر الانحطاط الحقيقي للمجتمعات التي لم تدرك حتى مسؤولية نفسها، فشلت الدولة في إنتاج مجتمعاتٍ واعيةٍ ومدركةٍ لحقيقة الخطر الذي يهددها، لم تهيئ الدول مجتمعاتها تجاه الكوارث، فكانت سياسة الأنظمة تجاه مجتمعاتها قوانين تطبق فقط ودافع التطبيق هو الخوف من العقوبة والجزاء، فأصبح الفرد هو العدو الأول للقانون كلما تتاح له الفرصة لخرق ومخالفة القانون حتى نفذ دون تردد، وبالطبع هذا لا ينطبق على كل الأفراد ولكن فئة منهم، وفئة ليست بالبسيطة، والسبب في ذلك الفهم الخطأ للقانون وعدم إدراك المسؤولية الاجتماعية، عدم إدراك الفرد الحقيقي لأهمية وجود القانون، لم تهيئ الدول مجتمعاتها لمثل هذه المواقف واكتفت فقط بتحصين نفسها منهم، لقد فشلت الدول في إدارة الأزمة وعادت إلى نقطة الصفر، وأدركت الدول أن مجتمعاتها كانت تخضع للقوانين خوفًا من الجزاء وليس احترامًا للقانون وإدراكًا لأهميته، وانتشار المرض دليل على أن التزام الناس كان أمام أعين السلطة فقط، لقد فشلت كثير من الدول بالرغم من قدراتها العسكرية والاقتصادية وأمريكا وإيطاليا وكندا أبرز الأمثلة على هذا.
إجمالًا يمكن القول بأن أهم نقاط يمكن التركيز عليها هي كالتالي :
- عند تطبيق القوانين تنشأ ممانعةٌ فطريةٌ في المجتمع فالإنسان بطبيعته الفطرية لا يحب التقييد، فعند سن قانونٍ معينٍ من قبل السلطة حتى لو كان هذا القانون يهدف إلى خدمة الإنسان نفسه، إلا أن الطبيعة الإنسانية في الغالب تسير وفق الأنا، أي تجنح دائمًا للدخول في صراع مع القانون واعتبار القانون عدوًا، فما أن تتاح الفرصة للفرد للعصيان والمخالفة بدون وقوع جزاءٍ حتى يسارع للقيام بها، ومدى مخالفة الإنسان تعود إلى وعيه وإدراكه، ولا يعني هذا أنه لا يوجد أفرادٌ واعون، فالمجتمع متنوعٌ بطبيعته، فإذا كان الفرد لا يعي الخطر الذي يحيط به، ولا يخاف على نفسه، فنحن لسنا أمام فردٍ جاهلٍ بل أمام فردٍ خطيرٍ ليس فقط على نفسه بل على المجتمع أيضًا.
- جاء مرض كورونا ليكشف الستار عن طبيعة المجتمعات، لقد غير هذا الحدث العالم، لقد خلق توجهاتٍ جديةً، وحطم أفكارًا وتوجهاتٍ قديمةً، أعاد ترتيب قيم معينةٍ، فكان أشبه بفترةٍ دراسيةٍ خضع لها العالم إجبارًا، أصبح العالم يترقب، ويتسابق، في سبيل محاولة القضاء عليه، وكائن السؤال الذي يدور في أذهان العالم من هي الدولة التي ستكون لها الريادة للقضاء عليه؟ تحركت الدول بمختلف الاتجاهات، أبحاث، دراسات، معامل، أطباء، تجهيزات، وكلًا يراقب الآخر وينتظر، لقد ضربت هذه الكارثة كل القيم الدولية والإنسانية، وقفت الدول عاجزةً أمام مواجهته حتى يعلن رئيس إيطاليا ويقول انتهت حلول الأرض وبقيت حلول السماء، فكانت كل الحلول تفترض حتمية الإصابة بالمرض لا حتمية الوقاية منه، ربما لأن الوقاية تكاليفها باهظةٌ بالنسبة للدول، لأن الوقاية مكفولةٌ ومضمونةٌ لمجتمعاتٍ مدركةٍ وواعيةٍ، فكان الجميع يترقب الحل النهائي وهو اكتشاف علاجٍ لهذا المرض ولقاحٍ يمنع انتشاره، حاولت الدول أن تغطي على فشلها الواضح في تكوين مجتمعاتٍ حقيقيةٍ وواعيةٍ، بمحاولة خلق تفسيرات كثيرة لطرق انتشار هذا المرض، وربما أن القارئ لهذه الدراسة قد تحضر أمامه صورٌ كثيرةٌ شاهدها في الأسواق، ووسائل النقل، المحلات، الأماكن العامة، إن الكثير من الناس لا ترتدي الكمامات، إلا إذا شاهدت دوريات الشرطة، أو دخلت مراكز عامةً ينبه فيها الموظف الواقف على الباب أهمية ارتداء الكمامة، لو شعر كل فرد بمسؤوليته أمام نفسه وأمام مجتمعه لكان الوضع أقل سوءًا، ولما طال عمر المرض، فكل تلك الجاهزية التي أعدتها الدول لم تحاصر المرض بل حاصرت المجتمع، والذي تحول من نقطة المسؤولية والإدراك والالتزام، إلى محاولة الهروب وتغفيل السلطات، والاجتهاد لاختراق القوانين التي اعتبرها المواطن ضده لا لأجله، فالإنسان إذا لم يكن مدركاً لشيء ولا يملك وعيًا تجاه الدولة ودورها، سوف يجتهد ليصل إلى الإدراك إذا ما كان يثق بمن يتحدث، وبالتأكيد تتفاوت القدرات والوعي بين أفراد المجتمع، فليس كل إنسانٍ مواطنًا فاضلًا، ولن يكون فاضلًا إلا إذا كان مدركًا وواعيًا، وكحد أدنى إذا ما أدرك 70% من المجتمع ووصلوا إلى الوعي الحقيقي سهَّل ذلك عمل الأنظمة، وربما حينها لن نحتاج للسلطة والقوة لردع ما تبقى من المجتمع، ولنفترض أن 30% كنسبةٍ افتراضيةٍ من أفراد المجتمع غير واعية، فإدراك 70% من أفراد المجتمع لمسؤوليتهم، تتحول هذه النسبة إلى عينٍ ساهرةٍ ضد كل من قد تخول له نفسه اختراق القوانين أو الأنظمة، فتصبح تلك الفئة غير الواعية مجبرةً على التنفيذ والاتباع خوفًا من نظرة المجتمع، التي قد ترصدهم في كل مكانٍ، أي إن الرقابةَ المجتمعية أشدُّ من رقابة السلطة، فرقابة المجتمع للمجتمع أجدى وأنفع من الرقابة الحكومية، ومع مرور الوقت تلك الفئة تصبح مجبرةً على الخضوع والخنوع والانصياع للقوانين، ولا يهم أن تقتنع تلك الفئة بما تقوم به طالما أنها تقوم به، وربما مع الزمن تتغير تلك الفئة وتٌكون تصرفاتها المستمرة قناعةً حقيقيةً بما تقوم به، وحينها نستطيع القول بأننا أمام مجتمعٍ واعٍ وحقيقي.
[1] سامية بن يحيى، قوة الأسلحة أم قوة الفيروسات، 30 مارس 2020، رأي اليوم ، https://www.raialyoum.com/wp-content/uploads/2018/02/logo.jpg،15/9/2020.
[2] سامية بن يحيى، مرجع سابق.
[3] سامية بن يحي، مرجع سابق .
[4] مرجع سابق.
[5] مرجع سابق.
[6] جمال عبد الجواد، القوة الناعمة.. مفهوم مهم لكنه مراوغ ، 02 مايو 2019 م https://www.albayan.ae/opinions/articles/2019-05-02-1.3550124 ،15/9/2020.
[7] هبة رؤوف عزت ، القوة الناعمة المهدرة:أزمة النظام القوي والدولة الضعيفة بمصر، 08/08/2011، https://studies.aljazeera.net/ar/files/2011/08/20118872345213170.html ،15/9/2020.
[8] هبة رؤوف عزت، مرجع سابق.
[9] هبة رؤوف عزت،مرجع سابق .
[10] جمال عبد الجواد، مرجع سابق.
[11] مرجع سابق .
[12] فاطمة مشعلة ، القوة الاقتصادية في العالم ، ٢ أبريل ٢٠١٧ ،https://mawdoo3.com/ ،12/9/2020.
[13] أحمد محمد المناوي، تغير موازين القوى الاقتصادية.. العالم يتجه شرقًا،4 فبراير 2007، https://www.ecssr.ae/ ، 13/9/2020 .
[14] موقع منظمة الصحة العالمية، مرض فيروس كورونا (كوفيد-19): سؤال وجواب ،https://www.who.int/ar ،5/9/2020.
[15] يبابلو أوشوا ،كيف تكافح الدول الديمقراطية فيروس كورونا مستفيدة من الصين السلطوية؟، 13 مارس/ آذار 2020، https://www.bbc.com/arabic، 12/9/2020.
[16] يبابلو أوشوا، مرجع سابق.
[17] مرجع سابق.
[18] يبابلو أوشوا، مرجع سابق .
[19] مرجع سابق .
[20] مرجع سابق .
[21] مرجع سابق .
[22] مرجع سابق .
[23] لويز كورد ، مكافحة جائحة فيروس كورونا: ضمان استجابة عادلة اجتماعيا، 04/27/2020 ، مدونات البنك الدولي ، https://blogs.worldbank.org/ar/voices/beating-coronavirus-ensuring-socially-equitable-response، 6/9/2020.
[24] لويز كورد، مرجع سابق .
[25] عبدالله الأيوبي، أهمية الوعي المجتمعي لمحاربة «كورونا ، مجلة أخبار الخليج، http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1204630 ،٤ سبتمبر ٢٠٢٠ م .
[26] سامية بن يحي ، مرجع سابق .