مقال نقدي
إن الحديث الذي كنت أسمعه في طرقات ساحة التغيير بصنعاء حول النظام الذي يراد إسقاطه؛ أثار فيَّ فضولا حول طبيعة التفكير لدى قوى الثورة على تنوعها. وسرعان ما رافقت ذلك الحراك الثوري موجة من محاولات التحليل السياسي التي نضحت بها الجرائد والمجلات والدوريات في تلك الفترة، في سباق محتدم لمحاولة قراءة الأحداث والتنبؤ بمستقبل تلك الأحداث.
فكانت بعض محاولات التحليل في تلك الفترة أدعى للضحك منها للجدية، ففي حين لم تتبلور بعد معالم تلك الأحداث الجديدة على مجتمعاتنا وربما – بنوع من التميز – على العالم. وبدت كمحاولات أناس مجتمعين حول شيء لم يظهر منه إلا جزء يسير. فإذا بأحدهم يقول أُذن حمار، والآخر بل أُذن حصان، ويأتي الداهية المتمحص ليقول بل ذئب سيأكل الأخضر واليابس ونخسر بسببه كل شيء، وعلى مسافة أخرى مجموعة ترفض ذلك التحليل غير المتبصر، كما تزعم، فتقول بل أنتم في واد والظاهرة في واد، هي ذيلٌ بما لا يدع للشك مجالًا.
وأجد لكل هؤلاء شيئًا من المعذرة، فكما قلت كانت الظاهرة في بداياتها. ولكن ما لا يبدو لي منطقيًا ولا مقبولًا هي محاولة المثقف العربي – واليمني على وجه الخصوص – العودة بالتحليل اليوم إلى أيام الثورة الأولى ليعود ويجادل بل هو ذئب سيأكل كل أغنامكم.
ففي حوارات ساحة التغيير بصنعاء كانت القوى الرجعية (صاحبة المصلحة ببقاء النظام السياسي) تروج لفكرة لدى الجماهير، فحواها أن إسقاط النظام شعار غير واقعي ومبالغ فيه. ومحاولة جر تحليل المشكلة اليمنية إلى صراع فحواه الرغبة المحضة في تغيير الرئيس باعتباره السبب الوحيد والأوحد للمشكلات التي قادت لمثل ذلك الحراك.
وبدأت الجماهير في دغمائية عجيبة تردد بعد ذلك الشعار الذي اعتلى المنصة: الشعب يريد إسقاط الرئيس، ووقفت مع بعض من أدركوا مكنونات هذا الشعار – فاغري الفاه محطمي الفؤاد ونحن نرى كما تبدو لنا عملية وأد للثورة من الداخل.
لم يكن من المفترض أن يثير ذلك العمل لدينا كل ذلك الاستغراب؛ كون الثورة قد اتسعت لتشمل العديد من القوى التقليدية المناهضة لفكرة الثورة أو بعض المنشقين بغرض ضمان استمرار وديمومة النظام السياسي. فيصبح مثل هذا الشعار هو الإعلان فقط عما قد تم مسبقًا (قراءة الفاتحة على روح الثورة).
الثورة نابعة من فشل النظام السياسي وليس السلطة السياسية فحسب
واستمر هذا الترويج المبني على استخدام التلاعبات اللفظية في توجيه الجماهير، والتي أصبحت في شوق لحدوث تغيير يشعرها بأنها انتصرت ولو كذبًا. فتحول النظام من مصطلح سياسي له مدلولاته إلى مجرد كلمة تعني ضد الفوضى، بالرغم من محاولات مقاومة ضعيفة ويائسة لبعض التيارات الوطنية والشبابية التي أدركت فحوى هذا المنحنى الخطير في حياة الحراك الثوري.
وحينما اشتعلت جذوة الحرب في هذا البلد اتجه بعض من المثقفين لمحاولة الخروج من مأزق تحليلاتهم السابقة إلى اتهام الشعارات (منها شعار إسقاط النظام) بكونها شعارات فضفاضة وغير واقعية. وهي – أي الشعارات – ما أدى لكل تلك المشكلات.
فدعوني أقف هنا على مسألة المشكلة التي واجهها اليمن. ففي حقيقة الأمر كان الشعار هو حل المشكلة في طابعه المنطقي. فالمشكلة التي أدت إلى الثورة في بادئ الأمر نابعة من فشل النظام السياسي الذي كان قائمًا وليست في السلطة السياسية فحسب. لقد فشل النظام السياسي في القدرة على الاستمرار والقدرة على أداء وظائفه ويقتضي ذلك بالضرورة حدوث التغيير والتي تشكل الثورة إحدى خطواته.
وبما أن النظام السياسي هو مجموع المؤسسات السياسية، والمبادئ، والقيم، والأفكار، والعلاقات التي تتحقق من خلالها السلطة السياسية [1]؛ فالسلطة – التي هي وليدة النظام السياسي – جزء من الخلل بطبيعة الحال، لكن الإشكالية تكمن في أن النظام السياسي الذي لم يعد صالحًا للاستمرار هو من سيفرخ سلطة سياسية أخرى شبيهة لسابقتها. وبذلك ندور في حالة من اللاتغيير.
إذًا فالخلل يا صديقي ليس في الشعار ومحاولة إظهاره شعار مثاليًا أو أجوفًا كما يصور بعض المثقفين إما إخفاقاً في فهم طبيعة الصراع وجوهر المشكلة أو محاولات عمدية للخروج من مأزق التحليل أو استسلامًا لليأس الناتج عن خيبة الأمل في حدوث التغيير.
إن النظام السياسي بمكوناته وفي بنيته المختلة قد أدى إلى الحرب وليست تلك الشعارات التي حللت جوهر المشكلة بأن النظام في علاقاته الاقتصادية وتركيباته الاجتماعية والثقافية قد بات عائقًا أمام التحول الديمقراطي الحقيقي. وأصبحت المؤسسات الصورية عاملًا في توليد الخيبة لدى الجماهير من إمكانيات التقدم.
الثورة تقتضي تغييرًا في البُنى والهياكل كما تقتضي تغييرًا في الأفكار والمبادئ
فالنظام -إلا من يريد أن يشطح بغير ذلك- ليس حقا إلهيا وإنما وليد للتركيبات الاجتماعية والاقتصادية التي تتغير من زمن إلى آخر. ومن ثم فإن عجزه عن تحقيق الأهداف المرجوة منه يعني أنه لم يعد نظامًا قادرًا على تأدية دوره دون تغيير ولا تطور. بكلمات أخرى، استحالة استمرار الوضع كما هو في عالم متغير مما يولد التخلف والتراجع ومن ثم الخيبة والغضب. وإذا لم يكن الخلل في الشعار فأين الخلل إذًا؟
إن التركيبة الاجتماعية لما قبل الدولة الحديثة – إذا لم نقل الدولة بإطلاقها – والإنتاج الاقتصادي القديم والبسيط، كما في التكوين الثقافي الرجعي، كلها جوهر المشكلة اليمنية. والثورة بمفهوم إسقاط النظام تقتضي تغييرًا في البُنى والهياكل كما تقتضي تغييرًا في الأفكار والمبادئ. أما محاولات قصر المشكلة اليمنية في مشكلة إدارية تقع على عاتق السلطة السياسية، وحصر عملية التغيير فيها وحدها هو عمل لا معنى له (عبثي).
ومن الطبيعي بعد فهم أن المشكلة في النظام لا في السلطة أن يكون السعي نحو تغييره لا تغييرها. ومن الطبيعي أن تواجه عملية التغيير محاولات للمقاومة المزدوجة من السلطة من جهة وممن تولدت عنهم هذه السلطة من مكونات النظام التقليدية من جهة أخرى. فعملت القوى الرجعية والمحافظة والتقليدية (وأي مصطلح آخر تريد أن تطلقه عليها) للحفاظ على بنية النظام السياسية والاجتماعية والاقتصادية، رغم محاولات قوى الحداثة والمجتمع المدني الدفع نحو تغيير ذلك الوضع بالمحاولة الثالثة (التغيير السياسي أولاً، والحراك الثوري ثانيًا) عبر مؤتمر الحوار الوطني الشامل.
ويستنتج أحدهم قائلًا: ها أنت إذن بكلامك هذا تقر بأن تلك المحاولات لتغيير النظام قد فشل بناءً على معطيات الواقع، فلماذا تبالغ بالمطالبة بتغييره ولا تبحث عن تحسينه في إطار الممكن؟ وهنا يلتقي المثقف والرجعي في نقطة واحدة هي أنه لا يمكن أن يكون أفضل مما كان. أقول بشيء من التهكم على هذه الطريقة في التفكير: إسقاط النظام ضرورة لا مناص منها، كيفية الإسقاط هي سبب الفشل ولذلك بحثه الخاص.
وهنا كانت معضلة التغيير السلمي. لكن هل يعني هذا أن الشعار لم يكن واقعيًا! بل هو واقعي من حيث كونه هو التشخيص الأمثل لمشكلة اليمن وتخلفه. وإن أي محاولات للبحث عن المشكلة في الشخصيات أو في قشور النظام السياسي هي محاولات تضليلية.
المراجع: