فولتير: الفكر الفلسفي وتأثيره على الثورة الفرنسية

فولتير، واحد من العديد من المفكرين الفرنسيين الذين ألهموا الثورة الفرنسية في الفترة من 1789 إلى 1799. وتشجعت الجماهير الفرنسية من خلال أفكاره الثورية على “القتال” من أجل حقوقهم وكشف النقاب عن فشل النظام الملكي والحكومة. كما شجع فولتير وغيره من الفلاسفة الشعب على تحدي السلطة من خلال كتاباتهم

يعتبر القرن الثامن عشر من أبرز الفترات التي شهدت تطورًا فكريًا وثقافيًا هائلاً. ومن بين الشخصيات البارزة التي نجحت في تأثيرها على هذا العصر، يبرز الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير. اذ يُعتبر فولتير أحد أعمدة العصر الفرنسي وأحد أهم الشخصيات التي أثرت على الثورة الفرنسية والتحولات الاجتماعية والثقافية في فرنسا وأوروبا بأسرها. وتهدف هذه المقالة إلى الاستكشاف حول فولتير والتركيز على الفكر الفلسفي الذي نشره وتأثيره على الثورة الفرنسية.

حياة فولتير

فرانسوا ماري آروويه، المعروف باسم فولتير، وهو كاتب وفيلسوف فرنسي بارز يعود تاريخ ولادته إلى 21 نوفمبر 1694 في باريس وتوفي في 30 مايو 1778. عاش فولتير في عصر التنوير وأشتهر بنقده الساخر ودفاعه عن الحريات المدنية، وخاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان.

كان فولتير أصغر أخوته الخمسة وكان الوحيد الذي نجا منهم. عمل والده كموثق وموظف رسمي صغير في وزارة المالية بينما والدته، ماري مارجريت دومارت، كانت تنحدر من أصول نبيلة في مقاطعة بواتو.

تلقى فولتير تعليمه في إحدى مدارس اليسوعيين، وتحديدًا في مدرسة لويس الكبير في الفترة من عام 1704 إلى 1711، حيث درس اللغة اللاتينية، وأصبح فيما بعد ماهرًا في اللغتين الإسبانية والإنجليزية. وبعد وفاة والدته، توجه فولتير نحو عرابه وأبيه في العماد، والذي كان يتمتع بفكر متحرر. في عام 1704، التحق فولتير بكلية لويس لو غراند، وهي مدرسة ثانوية يسوعية في باريس، حيث تلقى تعليمًا تقليديًا كلاسيكيًا، وبدأت مواهبه في الكتابة تظهر.

فولتير في شبابه

وقد كان فولتير كاتبًا غزيرًا قام بكتابة أعمال في جميع أشكال الأدب تقريبًا، حيث كتب مسرحيات وشعر وروايات ومقالات وأعمال تاريخية وعلمية، بالإضافة إلى أكثر من عشرين ألف خطاب وأكثر من ألفين من الكتب والمنشورات. ومن بين أشهر أعماله “رسائل فلسفية” (1734)، و”زاديغ” أو “صادق” (1747)، و”كانديد” (أو “الساذج”) (1759)، و”المعجم الفلسفي” (1764).

ويُعَدُّ فولتير شخصية مهمة في التاريخ الفرنسي، وقد ترك بصمة قوية في الأدب والفلسفة. فأعماله المتنوعة وأفكاره الثاقبة لا تزال تؤثر في التفكير العالمي حتى اليوم، مما يبرز أهمية دراسة إسهاماته لفهم أفضل للتطورات الاجتماعية والثقافية الحديثة.

كان فولتير يرى أن الحكم المطلق قد يكون مقبولًا إذا كان مستنيرًا

الفلسفة والفكر الفولتيري

عاش فولتير في فترة عصر التنوير. واشتهر بنقده الساخر ودفاعه عن الحريات المدنية، ولا سيما حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان. ويُعَتَبَر واحدًا من أبرز ممثلي التيار الفلسفي المعروف باسم “التنوير”، الذي يركز على دور العقل والتجربة في تحقيق المعرفة والتقدم.

وتجسدت آراء فولتير في نقده اللاذع للدين والكنيسة، حيث اعتبر أن الدين يجب أن يكون قضية شخصية ولا يتدخل في الشؤون السياسية. كما دافع أيضًا عن التسامح الديني والتعددية الثقافية، مع التركيز على الجوانب الأخلاقية للدين وتجاهل العقائد والطقوس الخاصة به.

كان فولتير شديد النقد للدين والكنيسة، معتبرًا أنهما يعوقان التقدم والحرية. كما كان يروج لتحويل الدين إلى مجرد قواعد أخلاقية تدعو إلى محبة الآخرين والعيش بسلام معهم.

وفي مجال الفلسفة السياسية، كان فولتير يرى أن الحكم المطلق قد يكون مقبولًا إذا كان مستنيرًا، أي أن الحاكم يحكم بحكمة وعدل ويحترم حقوق المواطنين. كما أيد فصل السلطات وأكد على أهمية وجود دستور.

وقد اعتبر فولتير النظام السياسي الإنجليزي أفضل الأنظمة الموجودة، حيث يضمن حريات الإنسان. ويحمي النظام السياسي الإنجليزي المواطنين من الظلم والاضطهاد، وتكون فيه السلطة السياسية منضبطة بقوانين تنطبق على الجميع بالمساواة.

ويُعَدُّ كتابه “رسائل فلسفية” الذي نشر في عام 1734 من أهم العوامل التي أشعلت ثورة فرنسا وشكلتها في العديد من الجوانب. وينصب تركيز الكتاب بشكل أساسي على تهذيب الذوق والتركيز على الجانب الأخلاقي، وهو ما كان فولتير يهدف إليه في هذا العمل.

تم كتابة هذا الكتاب أثناء إقامة فولتير في إنجلترا، وتطرق فيه إلى المقارنات بين الأنظمة الحكومية والبرلمانية والحياة الدينية وتأثير رعاية الفنون والعلوم في كلا البلدين.

في “المعجم الفلسفي” (1764)، الذي يعتبر أحد أهم أعمال فولتير على الإطلاق، يستخدم لغة بسيطة للتعبير عن المذاهب الفلسفية العميقة، ويبتعد عن الأسلوب الفلسفي الأكاديمي مع مفاهيمه ونظرياته.

يحتوي الكتاب على مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تعكس فكر فولتير، ويتناول فيها نظام الحكم والبرلمان والحياة الكنسية والتطورات العلمية والأكاديمية وكيفية دعم الفنون والآداب في كلا البلدين.

تمثال نصفي لفولتير

في “رسائل فلسفية”، يقوم فولتير بتمجيد شخصيات إنجليزية مثل “نيوتن” وتجارب إنجليزية مثل “الكويكرز”، في حين ينتقد شخصيات فرنسية مثل “ديكارت” واللاهوتي “بليز باسكال”.

يعد هذا الكتاب حملة على أنظمة فرنسا وعاداتها السياسية في عصر فولتير، وهو ما كان له تأثير كبير في إثارة الثورة الفرنسية وتوجيهها في عدة جوانب وتهذيب الذوق قبل كل شيء.

يعد هذا الكتاب واحدًا من أهم الكتب التي تأثرت به ثورة فرنسا، وتم حظره وحرقه من قبل السلطات الفرنسية. وكما ننصح بقراءة هذا الكتاب لمزيد من المعرفة بأفكار فولتير وآرائه.

بالإضافة إلى ذلك، كتب فولتير روايات أدبية ذات بُعد فلسفي، حظيت بصدى وتأثير واسع وترجمت فيما بعد إلى العربية على يد عميد الأدب العربي طه حسين. تشمل هذه الروايات “زاديغ” أو “صادق” (1747) وتدور حول شاب ثري يدعى زاديغ وتجربته المتعددة في البحث عن السعادة والمعرفة. كما تشمل أيضًا رواية “كانديد” (1759) التي تحكي قصة شاب بريء يعيش في عالم متشدد ويتعامل مع الصعاب بتفاؤل متجاوزًا العديد من المصاعب.

“مصير الإنسان بين يديه وليس في الجنة”

فولتير

تأثير فولتير على الثورة الفرنسية

فولتير، واحد من العديد من المفكرين الفرنسيين الذين ألهموا الثورة الفرنسية في الفترة من 1789 إلى 1799. وتشجعت الجماهير الفرنسية من خلال أفكاره الثورية على “القتال” من أجل حقوقهم وكشف النقاب عن فشل النظام الملكي والحكومة. كما شجع فولتير وغيره من الفلاسفة الشعب على تحدي السلطة من خلال كتاباتهم، وانتقد بشدة الكنيسة الكاثوليكية وأعتقد أن “مصير الإنسان بين يديه وليس في الجنة”. أشعلت أفكاره نار النضال ضد امتيازات وهيمنة الكنيسة، وجعلته يُعتبر رمزًا لعصر التنوير، حيث اشتهر بسخريته الفلسفية الذكية ودفاعه عن الحريات المدنية وخاصة حرية العقيدة.

الثورة الفرنسية

وقد تركت أعمال وأفكار فولتير بصمتها الواضحة على مفكرين هامين، بما في ذلك تلك الراجعة للثورتين الأميركية والفرنسية. كما كتب من المسرحيات والشعر والروايات إلى المقالات والأعمال التاريخية والعلمية، بالإضافة إلى أكثر من 20 ألف رسالة.

بعد مرور أكثر من 250 عامًا، عاد الجدل حول فولتير إلى باريس. واعتبرته الجمعية الوطنية الفرنسية أحد الذين ساهموا في تشجيع الثورة الفرنسية، وقد جمعت رفاته وأقيم له نصب تذكاري في مقبرة العظماء “البانثيون” بعد الثورة الفرنسية.

في المرحلة الثالثة من الثورة الفرنسية، لعب فولتير ومذهبه “المستبد المستنير” دورًا هامًا. تتشابه نظرية فولتير مع نظرية روسو في نقطة واحدة فقط، وهي عدم تجزئة السيادة. ومع ذلك، في نظرية فولتير، ليست السيادة للشعب، بل للملك فقط.

تركت أفكاره وأعماله بصمة واضحة على مفكرين مهمين في فترتي الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية

التأثير العالمي لفولتير

في ظل وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية التي تطبق على المخالفين، كان فولتير يظل مدافعًا صريحًا عن الإصلاح الاجتماعي. وباعتباره ممتازًا في فن المجادلة والمناظرة الهجائية، كان يستغل أعماله ببراعة في انتقاد دوغمائيات الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسات الاجتماعية الفرنسية في عصره.

وبالإضافة إلى ذلك، يعد فولتير واحدًا من الشخصيات البارزة في عصر التنوير، بجانب مونتسكيو وجون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو. كما يُلاحَظ بوضوح أن فولتير قد ترك أثرًا عميقًا على المستوى العالمي، حيث ساد تأثير أفكاره وأعماله في التطور التاريخي للثقافة الأوروبية، بل حتى على المستوى العالمي. وقد تأثرت به شخصيات بارزة ومرموقة مثل روسو وديدرو وكانط ومونتسكيو، بالإضافة إلى تأثيره على مجالات متنوعة مثل المجالات الفلسفية والتاريخية والأدبية، وحتى المجالات السياسية.

علاوة على ذلك، قام فولتير بثورة في فن التاريخ، حيث سعى لتجنب التحيز وتناول قضايا اجتماعية واقتصادية في مناقشاته، وابتعد عن الحسابات العسكرية الجافة. وقد طالب بتوسيع نطاق التعليم، معبرًا عن أمله في زيادة عدد الأشخاص الذين يتقنون القراءة والكتابة للتحرر من الجهل في المجتمع.

باختصار، يُعَدُّ فولتير كاتبًا وفيلسوفًا فرنسيًا بارزًا في عصر التنوير. ويتميز بنقده الساخر ومدافعته عن الحريات المدنية، وقد كان منتجًا ثرياً في كتابة الأعمال الأدبية. كما كان فولتير مدافعًا شجاعًا عن الإصلاح الاجتماعي، واستخدم أعماله كوسيلة لانتقاد المؤسسات الاجتماعية الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية في عصره. وقد تركت أفكاره وأعماله بصمة واضحة على مفكرين مهمين في فترتي الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. وستظل أفكار فولتير ذات تأثير قوي في التفكير العالمي والتحولات الاجتماعية والثقافية، كما تعد دراسة أعماله وفهم فلسفته ضرورة لتحقيق رؤية أفضل للعالم المعاصر والتطلع إلى التحديات الاجتماعية والسياسية الحديثة.

الترجمة العربية متاحة CC

المراجع والمصاددر


احرص على أن يصلك جديد عن طريق الاشتراك في قناتنا

على التلغرام

أحدث المقالات

  • تاريخ العلوم السياسية

    تاريخ العلوم السياسية

  • وهم الثراء 

    وهم الثراء 

  • لماذا يجب أن نثقف أنفسنا؟

    لماذا يجب أن نثقف أنفسنا؟

  • إدانة العربي في الأدب الصهيوني.. كيف افترى سميلانسكي على العرب؟

    إدانة العربي في الأدب الصهيوني.. كيف افترى سميلانسكي على العرب؟

  • ملخص كتاب رأس المال (2)

    ملخص كتاب رأس المال (2)