كتبه : هيثم ناجي
يُصَنَّفُ الأدباءُ كالكتب، لكن في مواقفهم وليس بما كتبوا؛ لجهل المصنِّفِين بعلاقة الكاتب مع اشتغاله الأدبي وأثره عليه، وتلك من مسائل الأدب التي اختلف فيها العلماء والباحثون والنُّقاد ونظَّروا لها؛ وقد ظهر في زماننا أدباء يكتبون عن «نظرية القراءة» ونظريات أخريات؛ يفسرنَّ العلاقة بين الكاتب والمكتوب وبين شخصيته الحقيقية والأخرى الضِّمنية في النَّص، وأن القارئ وحده هو مستخلصُ القصد من المكتوب.
فإن افترضنا وجود نظرية ما، تقطع الأثر بين الفاعل والمفعول؛ ليلزم فعل الكتابة ولايتعدى إلى مكتوبه فهي وهم، فكيف يمكن التَّغاضي عن حياة الأديب وأثرها في اشتغالاته؟! وإذا قُصد بشخصية الأديب تجاربه الفكرية والوجدانية التي تتبدل بتأثيرات الزَّمان والتَّعلم والقراءة، فهي حق يدركه الكاتب كالقارئ، الذي يقرأ في بادئ حياته بمرآة عقله، فإن انعكس المقروء عليها؛ مال إليه، وإن شَوش مرآته؛ نفر منه، أما القارئ الحصيف يحلل المكتوب ليفسره وقد يستشرف منه، وهذا النَّوع من القراء يملك منهجًا، وقراءته ذات نفعٍ فلا يعنيه حياة الكاتب بقدر المكتوب، ولكنه يُدرك أثره عليه.
أما واقعنا وهو السَّائد والغالب في تجمعاتِ الأدباء وكتاباتهم، فالمُصنَّف هو الكاتب وليس المكتوب، وفقًا لفكره أو تفكيره أو موقفه السِّياسي الجليّ، وقد يؤخذ بوظيفته ومظهره فيصَنف عليهما، ويكون تصنيفهم نتيجةً للصراعات الأنانية بين بعض الأدباء؛ ويمكن عده من أقبح التَّصانيف الخارجة عن جوهر الأدب، والواقعون فيه لا يجب الوثوق في آرائهم عن المكتوب الأدبي، الذي يخفي في الكلمة معنى، ووسط الكلام فائدة، ومجمل القول فكرة.
ورغم محدودية ظهور التَّصنيف القبيح، إلا أنه يترك أثرًا عند المتظاهرين بالفهم من المتلقين، ولكنه لا يستمر كالتَّصنيف لموقف سياسي أو لتفكيرٍ ما، مثل تصنيف الأوجه الثَّقافية السَّائدة في القرن الماضي الأديب العربي علي أحمد باكثير (١٩١٠- ديسمبر ١٩٦٩) في خانة «الإسلاميين» وهو تصنيف بمعاييرهم1؛ لأن مُطالِعَ أعماله المسرحية والرُّوائية سيجزم أنه الوحيد من أدباء عصره الذي فَهم الصِّراع؛ فتعزز عنده الانتماء إلى الأدب العربي؛ لأن باكثير كان يرى الإسلام الجزء المهم والأكثر تأثيرًا في الثَّقافة العربية، وأكد على رؤيته من خلال موقفه من القومية العربية2 ورموزها في كتاباته.
وقد اشتغل باكثير أعماله الشِّعرية والمسرحية والرُّوائية من أفكارٍ استقرأها واستنبطها خلال تجربته الأدبية ومن نبعِ تربيته العربية في حضرموت اليمن، وليس تأثرًا بالفكر السِّياسي الإسلامي الجديد، الذي برز في القرن الماضي بمسمياتٍ مختلفة؛ أبرزها «الإخوان المسلمون».
وكان لهذا التَّصنيف أثره في الدِّراسات التي أعدها باحثون عن أدبِ باكثير، فلقبه بعضهم « رائد الأدب الإسلامي»، وأحسَبه لن يحبذه؛ لو كان بيننا اليوم؛ لأن الأدب الإسلامي أوسع زمانًا ومكانًا فهو لم ينحصر باللُّغة العربية وحدها، بل كُتب بلغاتٍ أخرى كان لها دورٌ في التَّاريخ الإسلامي، أضف إلى ما سبق الامتداد الزَّماني للأدب الإسلامي منذ صدر الإسلام، فكيف يكون باكثير رائدًا له؟!، إذن ظاهر اللَّقب قد يؤطر المكتوب في إطارٍ لا وجه فيه، ويحاول ذبذبة تصورات الألفاظ الواضحة مفهومها، ولا يمكن قياس أدب باكثير الواضح الصُّورة والفكرة، والذي يُعتبر إرثًا مهمًا بأفكار الإسلام السِّياسي الجديدة.
ودرس الباحثون في إرث باكثير المسرحي والرُّوائي والشِّعري؛ لكَمّ وكيف أعماله في هذه الأجناس والأنواع الأدبية، ولكنَّه (أيضًا) خلَّف مقالاتٍ ومحاضراتٍ مهمة، عنون آخرها بـ «دور الأديب العربي في المعركة ضد الاستعمار والصِّهيونية»، وهي بالأصل محاضرة ألقاها في مؤتمر الأدباء والكتاب العرب، الذي عُقد في بغداد أبريل ١٩٦٩، ونشرتها مقالًا مجلة الآداب (بيروت) في عددها الخامس من السَّنة السَّابعة عشرة، مايو ١٩٦٩.
ومحتوى المحاضرة مستخلصُ تجربة باكثير الأدبية ووعيه بالصِّراع وبسيرورته التَّاريخية؛ فاستحسنتُ تضمين اقتباسات منها في هذا المقال؛ للاستيحاء من التَّجارب والخبرات الثَّقافية السَّابقة، وباكثير أديبٌ عاصر السَّاق في تاريخ صراع القرن العشرين ووعى جذوره، فلا ضير من جَني ما زرعه.
الهيمنة على الأدب
تمحور الصِّراع في النِّصف الثَّاني من القرن الماضي بين قطبي الكوكب الشَّرقي والغربي، وانتهى بانهيار الاتحاد السُّوفيتي مع دخول العالم عقد التِّسعينيات، وأثر سلبًا في اشتغالات الكثير من الأدباء، الذين اتجهوا توجهًا ماركسيًا، وقد كانوا في فترة الصِّراع نجمًا ولنظرياتهم مكانة مرموقة في الدِّراسات الأدبية، واستطاعوا الهيمنة على الاتحادات والنَّقابات الثَّقافية، فسادت أنماطهم في تصنيف المثقف والأديب، كما تسود اليوم أنماط التَّوجه الغربي على مضامين ومؤسسات الثَّقافة، مع ما بقي من آثار الهيمنة الماركسية السَّابقة، فلا يُعجَبُ من وجود تناقضٍ في الآراء والرُّؤى؛ قد تُلحظ في بعض ما يُكتب أو كُتب منذ انهيار الاتحاد السُّوفيتي وخفوت ضوئه المؤثر في الأدب إلى اليوم، والحصيف يمكنه قراءة هول التَّأزم وإدراك ما يعكسه تفكير الكاتب على المكتوب.
ومع تسيّد التَّوجه الغربي اليوم؛ برزتْ أنماطٌ تُعرِّف وتصنف المثقف والأديب، أبرزها، أن يكون المثقف على يقين بأن ما يعتقده الغرب من وجهات نظر هي الشَّكل الحضاري، ومعيار للشعور والتَّفكير والسُّلوك الذي يجب أن يُنتهج عليه؛ ليتصف الإنسان بالمثقف والأديب، ولن يتفق المؤطرون بهذا التَّوجه مع قولي، ولكن هل يستطيعوا التَّأقلم مع أديبٍ، لا يرى رأيهم في مسألة كحقوق الإنسان أو الدِّيمقراطية وغير ذلك، ورغم إدعائهم الدِّفاع عن حرية الفكر وتطبيقه وتعزيزه، لكن لم نكُ نعلم أن شعاراتهم ماهي إلا حجابٌ لهيمنةٍ نتائجها الظَّاهرة: الفوضى وتعزيز القوة الأيديولوجية للسياسة الخارجية لدول غربية استعمارية.
وأراهم يدركون ولا يدركون، أنهم أضاعوا الثَّقافة ومعها الأدب في تفاهات الفردية، وضاق عليهم لفظ «المجتمع»، فأصبحوا وباتوا على ذكره كالعدو المبين الذي يترصد بهم؛ ليعيق تطورهم المزعوم، وانتقدوا الشَّعبوية وظنوا أنهم قد ترفعوا عنها، فترى في قولهم خواطر تطرأ على تفكيرهم، يتوهمون بها ويجزمون أنها صارت من اليقين، وهم بوهمهم في الشَّعبوية ساقطون، ومحوا من قاموس الأديب العربي كلمة قضية؛ لأنها خرجت عما تدل في اصطلاح العلوم، لتدل على الكفاح والدَّور والانتماء، ومن باب التَّثاقف عرفوا الموضوعية بالامتناع عن فهم السِّياسة والصِّراع، وهم وإن كانوا قد توهموا صدق تثاقفهم إلا أنهم أداة سياسة، فإذا كان الفكر أساس الهيمنة فللأدب فكره، وإذا كان السَّائرون في فوضى التَّقمص لم يعوا هذا، فأين الطَّريق الذي يسلكونه؟!
إن التَّوجه بالفكر الغربي اليوم هو أسهل ما يكون لسعة انتشاره وكثرة مروجيه، ولكن هل يستطيع الأديب الحق التَّحرر منه؟ لأنه صار فكر غوغاء الأدب الضَّالين والمضلين، وكثيرهم الجُهال، وبعضهم الأنانيون، وهؤلاء عبيد الشُّهرة والمال، ككاتبٍ همه جنيّ الأموال، يقوم بتغيير عنوان روايته ليشارك في جوائز عربية، وقد فضحته الأقدار سنة ٢٠١٧، لكنه لم يتب أو يتعظ.
وجَعلَنا التَّوجه، نناطح المظاهر فأُعجِبنا ببريق الشَّكل وقَبحنا الجوهر؛ لأنه غير مرئي لمتقمص الأفكار من غير منشئها، نسينا أن الأديب لا تنشئه القراءة السَّطحية لفلسفة أو فكر، وأنه إنشاء التَّراكم من العلم ودراسة الواقع وفهم الصِّراع، فكان تأثير اشتغالاتهم عائقٌ أمام إدراكنا لذاتنا الثَّقافية وقضاياها، وانتكاسة الانتماء للزمان والمكان، فكيف تركن على السَّاقط في هوة أن يرفعك؟.
أكد باكثير على دور القضية في إنتاج الأدب الحق، وأسقط وهم الموضوعية التي يتغنى بها العاجزون، ويسأل وهو المجيب، ما دور الأديب العربي في هذه المعركة؟ (يقصد معركة العرب ضد الاستعمار والصُّهيونية، التي بلا شك ولا ظن هي المعركة ضد القطب المسيطر على العالم اليوم)، يقول: «إنه لدور جسيم، أولًا لجسامة المعركة ذاتها، إذ نواجه القوى العالمية الثَّلاث مجتمعة (الاستعمار القديم والجديد والصُّهيونية)، ولاتساع الجبهة التي نواجه أعداءنا عليها، حتى تكاد تكون باتساع العالم كله.
وثانيًا: لأن عدونا الصُّهيوني قد اعتمد في نجاح حركته اعتمادًا كبيرًا منذ مؤتمر بال3 سنة ١٨٩٧ على قوة الكلمة في مختلف صورها، من أدب وصحافة وإذاعة وشاشة كبيرة وصغيرة، وبصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحركات السِّياسية الأخرى، وقد ساعد على ذلك انتشار جالياته في أقطار العالم، مما مكنه من السَّيطرة على أجهزة الإعلام المختلفة في شتى بلاد العالم، بالإضافة إلى التقاء أهدافه مع أهداف الاستعمار والإمبريالية…».
ويحفز باكثير الأديب: «جسامة المعركة لا ينبغي أن ترهب الأديب العربي أو تحمله على اليأس، بل هي أحرى أن تدفعه إلى العمل الدَّائب، القائم على المعرفة والدِّراسة العميقة، والعزم الصَّادق، على أن تخطي الحواجز التي وضعها العدو دون بلوغ كلمتنا إلى أسماع العالم، فإنه كان للعدو فضل السَّبق إلى استخدام الأدب وفن الكلمة في القيام بدعايته الواسعة قبلنا، وكانت له ميزة الانتشار والتَّغلغل في العالم، والسَّيطرة على الأجهزة الإعلامية في معظم دوله، فحسبنا أن الحق في جانبنا والحق في ذاته قوة عظيمة إذا وجد من يدافع عنه بالحكمة والحسنى، وبالإخلاص والإيمان والإصرار والاستماتة إلى جانب التَّنسيق والتَّنظيم مع بذل أقصى الوسع للارتفاع بالصُّورة التَّعبيرية للعمل الأدبي إلى أسمى مراتب الإبداع».
أوجه أدبية
قسم باكثير في محاضرته المحتوى الأدبي المكتوب باللُّغة العربية إلى ثلاثة [أوجه]4، أوله الوجه الماركسي، وميزهُ بالإيمان بالمادة دون القيَّم الرُّوحية وتركيزه على الصِّراع الطَّبقي، وانتهاج المنهج اللِّينيني لإقامة المجتمع الاشتراكي بنسخه على الواقع العربي.
والملاحظ، أن هذا الوجه خفتَ ضوءه بعد انهيار الاتحاد السُّوفيتي مع استمرار أثره كما أشرنا، ويمكن ملاحظته اليوم في بعض الكتابات الواعية به والمنشورة في الإصدارات الدَّورية، مثل مجلة بدايات الفصلية وغيرها.
وثانيه، الوجه الغربي، ويصفه باكثير «بالحامل للنزعات الرَّجعية واللِّيبرالية والصَّليبية والوجودية والعدمية والعبثية ولا معقولة».
وهذه الألفاظ التي ذكرها؛ ليصف بها الوجه الغربي، صارت اليوم من المصطلحات المستهلكة ضمن الجدل السَّفسطائي بين المثقفين ومنهم الأدباء؛ وتداولها دليل على تأثير هيمنة هذا الوجه على المؤسسات التَّعليمية الأكاديمية ومناهجها والمشهد الثَّقافي الحالي.
ويزيد باكثير مما استقرأهُ، يقول: «وجه يرى: لا حضارة إلا حضارة الغرب، ولا فن إلا فن الغرب، ولا اشتراكية إلا اشتراكية الغرب، ولا ديمقراطية إلا ديمقراطية الغرب، ولا دين إلا دين الغرب».
وأظن أن تكرير باكثير كلمة الغرب؛ هو تأكيد منه على ضياع الانتماء والهوية عند أصحاب هذا التَّوجه، واستبدالها بالوافد الغربي المنمق الشَّكل، وهذا لا يكون إلا من قُصرِ الفهم للواقع والصِّراع، ومن هيمنة ثقافية أنتجتها وسائل الاتصال الجماهيري، وبفعل بروز المنظمات المُمُوِلة للمشاريع الثَّقافية مع غياب دور الاتحادات والنَّقابات والمؤسسات الحكومية، وأيضًا انتشار أفكار غير واضحة مفاهيمها لجماعات «إسلامية» تحاول إعادة تعريف التُّراث العربي الإسلامي بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر؛ فيقدمون الغرب باعتباره النُّموذج الأفضل، الذي يسير وفقًا للمنهج الإسلامي وهو سبب ظهور نجمه، بينما يجب معارضته؛ لأن الغرب لا يمتون للإسلام بصلة، هذا مثالٌ شائعٌ، ورغم سذاجة ظاهره، لكنه وغيره (بالملاحظة) — من النتائج المتجسدة لمحاولة إعادة تعريف مفردات التُّراث — من أهم علل التَّأزم الفكري عند كُثر، ممن تحولت وجهتهم نحو التَّمنذج الغربي؛ متوهمون أن زوال الشَّمس نحو الغرب يعني نهاية التَّاريخ.
وأشار باكثير، إلى ارتباط الوجه الغربي —عَلِم المتوجه أو لم يَعلَم — بالقوة الأيديولوجية للسياسات الاستعمارية الغربية وبشبكة مخابراته.
وثالثًا الوجه العربي، وهو «الأصيل الواعي بمقومات أمته وقيّمها الأدبية والرُّوحية ويعتز بتاريخها، وينفتح على الثَّقافات العالمية بمختلف اتجاهاتها وألوانها، فلا يزيده انفتاحه عليها، واستيعابه لها، إلا ترسيخًا لأصالته العربية وتنميةً وبلورة».
وهذا الوجه هو ما توجه به باكثير في أعماله، ورأى أنه المطلوب في المعركة ضد الاستعمار والصُّهيونية مع أحقية باقي الأوجه في المشاركة، وامتياز الوجه العربي عنهما بنفي التَّبعية لأي جهة.
فهو «سبيل لا يلتوي بسالكه عن القصد، ولا ينحرف به عن الجادة، ولا يرضى له أن يضحي بقيمة ثابتة في سبيل مكسب عاجل أو يشفي داء ليضع مكانه داء آخر، إنه السَّبيل المستقيم الواضح، الذي يوصل إلى الهدف الأسمى من أقصر الطُّرق، وبأقل التَّكاليف، وعلى أحسن الوجوه».
وأضيف، أن هذا الوجه لا ينشأ إلا بالفهم الواضح والوعي العميق بالواقع العربي والمحلي وما يحيط بهما، وبتعزيز الانتماء؛ بإدراك الصِّراع من أقربه لمساحة الفرد الشَّخصية تصاعديًا إلى الوعي بالصِّراع الحضاري، ولا يمكن الانتقال من فهم إلى فهم، ما لم تُحل عقدة الأقرب فأعلاه ثُمَّ أعلاه.
وينشأ الوجه العربي أولًا من تتبع طرق العلمِ والتَّنويع في القراءة المنهجية المتدرجة؛ التي تبدأ بتصور الأصول (الأساسيات) فالاستدلال بالفروع، ثُمَّ مسائل العلم ودلالاتها واعتراضاتها، وحسبنا من السَّابقين الذين تاهوا في القراءة السَّطحية غير المستندة بعلم؛ فضلُّوا وأضلّوا.
الأديب العربي: منتمٍ
استفهمني صديقٌ، هل الأديب العربي موجود؟ فحرتُ، ولم أستطع الإجابة عنه، رغم أني لم أكن لأعجز عن الإجابة بالنَّفي أو الإيجاب؛ لأن الجواب لن يكتمل ما لم نجب أولًا عن تساؤل، مَنْ الأديب العربي؟
تختلف الأوجه في الجواب، لاختلاف المعايير، كاختلافهم حول تحديد اسم أول رواية عربية صدرت في مصر واليمن؛ فجوهر المُختلَف فيه هو محتوى المكتوب واستمداده للشكل والبناء، إما من التُّراث وإما متقمص من الغرب؛ أي أن للأوجه معايير يزنون عليها تصوراتهم للألفاظ.
أما الأديب العربي؛ فهو: لفظٌ مركب بالإضافة، له دلالة تتضمن ارتباط العربي بالأدب، وتمتاز ماهيته عن أدباء آخرين يكتبون بالعربية: أنه أديبٌ منتمٍ، لا تفارقه هذه الميزة، ويكون انتماؤه مشروطًا بالاستفادة من المنتمى إليه والعمل لصالحه؛ أي: أن الأديب العربي هو من انتمى لواقع عروبته ومشكلاته وقضاياه وأرضه، ويعمل وفقًا لها ويصبح مسئولًا عليها، ولا تكون استفادته بانتهاز عمله للتسلق على الأكتاف، إنما بالعيش وتحقيق الذَّات فيه والرِّضا عن النَّفس.
وفي محاضرة «دور الأديب العربي في المعركة ضد الاستعمار والصُّهيونية»، لم يفت باكثير تساؤل«من الأديب العربي؟» وكان من ضمن تصوراته قبل الكتابة، وحدد له معانٍ باكتمالها يصير الكاتب أديبًا عربيًا، قال: «نقطة في تكوين الأديب العربي، أراها على قدر كبير من الأهمية، لأنها الأساس لكل ما ينبغي أن يكون عليه(…)، ليكون أهلًا للاضطلاع بتلك المسؤولية الكبرى مسؤولية الرَّائد لأمته، التُّرجمان لضميرها، الشَّارح لحقها، المدافع عن قضاياها، المتكلم بلسانها، وليؤدي دوره خير أداء في هذه المعركة التي تخوضها أمتنا اليوم»
وأضافَ؛ إلحاقًا: «ألا وهي أن يتحلى بصفة تعلو على الصِّفات كلها وتفوقها في الخطر والأهمية: وأعني الأصالة العربية، والمقصود(…) أن يكون الأديب عربيًا في كل شيء وقبل كل شيء، عربيًا في شعوره وتفكيره، ونظرته إلى الكون والحياة، عربيًا في انتمائه واهتمامه واعتزازه بوطنه وأمته…».
ويؤكد باكثير، أن «الأديب العربي حقًا هو الذي تكتمل فيه هذه المعاني، ولو كان يكتب بلغة أجنبية. والأديب تعوزه هذه المعاني أو بعضها، ليس في الحق أديبًا عربيًا، وإنما هو أديبٌ من العرب أو أديبٌ يكتب باللُّغة العربية».
إذن سيكون الجواب عن تساؤل« هل الأديب العربي موجود؟» إيجابًا مع تأكيد انحصار تأثيره؛ لعدم وجود التنظيم والتنسيق ولمحدودية انتشار المؤسسات ودور النَّشر الثَّقافية، التي تتجه بهذا التَّوجه اليوم في ظل هيمنة الوجه الغربي.
لكن يُستشرف من تفسير التَّحولات في العالم اليوم، أن بيئة خصبة سوف تُهيئ لبروز الوجه العامل على ترسيخ الثَّقافات الذَّاتية في العالم، وكبح جماح الَّثقافة الغربية المرتبطة بسياساتٍ استعمارية، إلا أنه لا يمكننا الرُّكون أو انتظار المستقبل بل الواجب النَّظر إلى الأفق وتعبيد الطَّريق نحوه.
مع أهمية التَّركيز على وجود جهود هدفها محو الجذور العربية الثَّقافية ومحاولة إبراز النَّمط غير المدروس، الذي يُظهر التُّراث على غير حقيقته؛ ولنعلم أنهم منقادون إما لسطحية قراءة الواقع وإما لكيانات أجنبية ومنظمات وجماعات مشبوهة؛ سواء ادعوا في ظاهر فكرهم الحفاظ على الذَّات الإسلامية، أو ممن رأى في تقمص الثَّقافات الأجنبية حلًا لعقده الفردية.
والمهم هو الإيمان بالأدب ودوره في بناء نهضة ذاتية، وأن التَّجارب التَّاريخية للنهوض بالأمم في العالم تأسست من جذور تراثها الثَّقافي مع الانفتاح على ثقافات العالم كلها؛ لإنبات أغصانٍ جديدة مثمرة، مع التَّركيز على أهمية الوعي بالصِّراع اليوم، في المعركة ضد الاستعمار الجديد والصُّهيونية؛ لأنه وعيٌ مهم لتعزيز الانتماء للمبادئ العربية، وانتسابٌ للقيّم.
الهوامش
1 – كتب د.عبدالعزيز المقالح: «كان النقد في مصر في عقدي الخمسينيات والستينيات نقدًا أيديولوجيًا، يعكس الصراع الحاد بين مد اليسار وجزر اليمين، ولما كان باكثير على خلاف مع اليسار ولا يثق باليمين ولا يرى في فكرة المتحجر التعبير الواعي عن روح العصر، كانت النتيجة أن تجاهله التياران وضربا حوله نطاقًا من القمع الصامت»، انظر (علي أحمد باكثير: رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر، د.عبدالعزيز المقالح، دار الكلمة للنشر، صنعاء، ١٩٩٥)، نقلًا عن (صيارفة الأدب العربي في القرن العشرين، متعب القرني، دار مدارك للنشر، ٢٠١٧، الطبعة الأولى،صـ١٨١)، انظر أيضًا (علي أحمد باكثير: رائد التحديث للقصيدة الجديدة، د. عبدالعزيز المقالح، مجلة الآداب، جامعة ذمار، العدد١، فبراير ٢٠٠٢).
2 – اقرأ: «فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية» لعلي أحمد باكثير.
3 – المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة بال السويسرية سنة ١٨٩٧، وترأسه «هرتزل»، وخرج المؤتمرون بإعلان هدف الصهيونية في خلق وطن لليهود على أرض فلسطين العربية. اقرأ (الصهيونية السياسية من مؤتمر بال حتى وعد بلفور، دراسة د. إمحمد إبراهيم إمحمد، كلية الآداب، جامعة عمر المختار، البيضاء، ٢٠١١).
4 – ذكرها باكثير بصيغة جمع الكثرة (وجوه).