إسرائيل: الهُوية وصراع التاريخ

لقد اجتهدت إسرائيل لصنع هوية خاصة وفي طريقها سعت إلى الحفاظ على العبرية كي تكون الوسيلة الوحيدة لتواصل اليهود، وقد تمت ممارسة العنف ضد الثقافات الأخرى واللغات، أي أن ممارسة العنف داخل إسرائيل لم يقتصر على الفلسطينيين فحسب بل على اليهود أنفسهم في سبيل توحيد هوية يهودية.

إسرائيل-الهوية-وصراع-التاريخ

بعد انسحاب الانتداب البريطاني من فلسطين سارعت الصهيونية إلى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948. ودعت يهود العالم للعودة إلى ما عرف بأرض الميعاد، أي أرض فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ تصارع إسرائيل ليس فقط الإنسان الفلسطيني، بل إنها تصارع التاريخ والثقافة والحضارة والدين في سبيل إقامة دولة إسرائيل. لم يقتصر صراع إسرائيل على الحاضر، بل كانت تخوض معاركًا في الماضي (معارك مع التاريخ ).

    وبالرغم من كل التجاوزات والخروقات التي مارستها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية تنفتح عجلة التاريخ لتبحث عن الماضي الذي يرفضه الإسرائيليون أنفسهم. ومع كل انتفاضة فلسطينية تبدأ التساؤلات في الظهور. تساؤلات لا تجرؤ إسرائيل نفسها أن تذكرها، منها: من أين جاءت إسرائيل؟ فعكس كل الحضارات والأمم التي دائمًا تبحث في تاريخها عن ظهورها الأول، تكتفي إسرائيل بذكر تاريخ يقوم على أساطير مجهولة المصدر. وفي هذه المقالة نحاول التركيز على صراع إسرائيل مع الهُوية والتاريخ وربما هو الصراع الذي تخسره إسرائيل في كل انتفاضة أو ثورة فلسطينية. صراع إسرائيل لم يقتصر على الصراع ضد الفلسطينيين، صراع إسرائيل لم يقتصر ضد الفلسطينيين بل حتى لإقناع اليهود أنفسهم بأن صراعهم على هذه الأرض تاريخي ومشروع.

الهُوية الإسرائيلية

بعد التقاء اليهود من مختلف دول العالم بدأ السؤال في الظهور حول كيفية صناعة هُوية إسرائيلية موحدة في ظل التنوع الحاصل. فالرابط الوحيد بين أبناء المجتمع اليهودي هو الدين. فقد تعددت السرديات اليهودية التي كتبت بأقلام مختلفة وبلغات مختلفة حول الهُوية اليهودية نفسها ونتيجة تنوع السرديات كان على إسرائيل إيجاد سردية تقنع يهود العالم بضرورة لم شتات اليهود. هذا التنافر والتعدد في الروايات كان أحد أهم العوائق أمام الدولة الإسرائيلية في إيجاد هُوية إسرائيلية خاصة بالأمة اليهودية وفي إيجاد أسباب منطقية ترتبط بالأمة اليهودية لانتزاع الأراضي الفلسطينية. فبينما تجاوزت الدول تعدد الهويات بإيجاد هُوية وطنية ترتبط باسم الدولة رغم تعدد الأعراق واللغات والأديان داخل مجتمعات تلك الدول، رأى مؤسسو الصهيونية أن هُوية دولة إسرائيل تنطلق من الديانة اليهودية وأنه يجب أن يكون هناك وطن واحد يشمل كل يهود العالم، وربما هنا كانت تكمن الصعوبة، فمن الصعب أن تجمع يهود العالم على رواية واحدة وتدمجهم في مجتمع واحد مع هذا التعدد الكبير والتنوع في الهويات والثقافات.

لكل هُوية تاريخ تتشكل فيه، وإذا ما أرادت إسرائيل أن تكتب لها تاريخًا هل ستبدأ من تاريخ احتلال فلسطين وهو تاريخ يتساوى مع عمر دكتاتوريات حكم القرن المنصرم. وكيف سوف تتعامل إسرائيل مع تاريخ اليهود في بلدانهم الأصلية (أي  قبل ظهور إسرائيل)؟ وكيف نظر اليهود إلى تهجيرهم من مواطنهم إلى إسرائيل خصوصا أن أغلبهم أجبر على التهجير.

فكرة صنع هُوية ترتكز على الديانة اليهودية، كانت فكرة يصعب تقبلها من اليهود أنفسهم وهذا ما أوضحته رواية الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز في سيرته الروائية قصة عن الحب والظلام وهو الذي شرح فيها مفهوم الهُوية اليهودية والتي جمعت الناس من أقطار العالم إلى بقعة جغرافية واحدة لتصنع لهم وطنًا مبنيًا على هُوية دينية وهو أمر لم يحدث عبر التاريخ.

   فبينما صراع الهويات داخل كيان الدولة الوطنية أدى إلى تطور كيان الدولة القومية بطريقة تتناسب وتحافظ على هذا التنوع، وتمنع تجزأ الدولة القومية إلى دويلات، تجاوزت المجتمعات الوطنية أزمة الهُوية واستبدلته بهوية كيان الدولة الوطنية.

 فقد واجهت إسرائيل صراعًا داخليًا من اليهود أنفسهم الذين رفضوا السردية الصهيونية لهويتهم واعتنقوا السردية التوراتية.  اضطر الأمر بإسرائيل في سبيل إقناع اليهود إلى إيجاد سردية توراتية جديدة تبيح لهم وتشرعن ما يقومون به في فلسطين التي ادعوا بأنها حقهم المقدس.

 سعت الصهيونية إلى الحفاظ على العبرية كي تكون الوسيلة الوحيدة لتواصل اليهود خلال فترة زمنية طويلة ، وقد تمت ممارسة العنف ضد الثقافات الأخرى واللغات في سبيل الحفاظ على العبرية بين اليهود، أي أن ممارسة العنف داخل إسرائيل لم يقتصر على الفلسطينيين فحسب بل على اليهود أنفسهم في سبيل توحيد هُوية يهودية. فقد عانت إسرائيل والكيان الصهيوني من أزمة هُوية على جميع المستويات: فكرية أيدلوجية بين (العلمانيين والمتدينين) ودينية بين (يهوديي الكيان وعلمانييه) وأزمة إثنية تتصل بالطبيعة التكوينية كخليط عرقي متعدد الجنسيات.     

إسرائيل وصراع التاريخ

لكل حضارة موروث تاريخي تستند إليه وتفخر به، وتبدأ حاضرها منه، فمن أين بدأ تاريخ إسرائيل؟

إيلان بابي في كتابه الأساطير العشر حول إسرائيل، تحدث أن إسرائيل بنيت على الأساطير والتضليل التاريخي والافتراء. يقول إن إسرائيل تستخدم سرديات في أساطيرها، سردية تقدمها للعالم وسردية أخرى تدور حول الفلسطينيين، وفي رأيي أن هناك سردية ثالثة تقدمها لليهود أنفسهم وهي الأهم. يقول بابي إن إسرائيل تنكر الوجود التاريخي للفلسطينيين على أرض فلسطين فالفكر الصهيوني ينطلق من أن فلسطين “أرض بلا شعب” أي إنها أرض خاوية لكن بابي فند في كتابه تلك الأسطورة بقوله إن على الرغم من أن الوجود العثماني في فلسطين سبق الوجود الصهيوني فالوجود العثماني في فلسطين بدأ بتاريخ 1517 لكن العثمانيين وجدوا في فلسطين شعبًا راسخًا يغلب عليه الطابع السني وأن عدد اليهود في تلك الفترة كان أقل من 5% وكان لهذا الشعب لغته العربية المميزة بلهجته الخاصة وعاداته وتقاليده بل وتراثه التاريخي، فكيف يمكن الحديث عن تاريخ دولة بدأت تاريخها بأساطير؟

ومن أجل إثارة عاطفة العالم وكي تصبح أسطورتهم التي تقول إن فلسطين أرض بلا شعب كان لابد من أسطورة أخرى تقول إن “اليهود شعب بلا أرض” وقد كان أثر هذه الأسطورة على اليهود أقوى من أثرها على غيرهم، فقد ربطت اليهود برابطة جمعتهم حول قضية واهمة وهذا ما نجحت الصهيونية في تحقيقه؛ فقد نجحت في استمالة عاطفة اليهود أنفسهم وهي البداية لإقناعهم بالإيمان بأيدلوجية الصهيونية، ولم يكن دور الصهيونية فقط بث الأفكار تلك وغرسها، بل عملت على محاور عديدة، فأفكار الصهيونية لم تلقَ رواجًا كبيرًا بين يهود العالم في البداية لذلك كان على الصهيونية التدخل لتدعيم هذه الأفكار وإقناع اليهود قبل أن تقنع العالم بأساطيرها. كان صراع الصهيونية صعبًا ومتعدد الجوانب، فمن جانب صراعها مع التاريخ وهو الأصعب فهي تصارع حقائق تاريخية قريبة رصدتها الكاميرات وأذاعتها وسائل الإعلام وكتب عنها المؤلفون، بل إن هناك من عاصر هذا التاريخ وهم على قيد الحياة. استخدمت فيه إسرائيل كل الوسائل الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والدينية.

 تاريخ الدولة الإسرائيلية بني في الكٌتب والروايات والمؤلفات قبل أن ينشأ على أرض الواقع. أي إن دولة إسرائيل أسست في مؤلفات كثيرة سبقت حتى مؤلف كتاب “الدولة اليهودية” لتيودور هرتزل، بل إن هذه الدولة تحدث عنها خيال المؤلفين مثل كتاب “التحرر الذاتي” لبيربيتسكر وكتاب “روما والقدس” لمؤلفه تسيفي هرش عام 1822، أي قبل أن توجد إسرائيل على أرض فلسطين. وهذا ما يخالف ظهور الحضارات والدول التي وجدت على الأرض قبل أن تكتب عنها الكتب.

يستشهد بابي في كتابه الأساطير العشر حول كيف تعاملت الدولة الإسرائيلية مع الفلسطينيين، بخطاب بديفيد بن غوريون زعيم الحركة الصهيونية في ذلك الوقت وقد كان أول رئيس وزراء إسرائيلي حيث صرح في عام 1937 أنه يؤيد فكرة النقل الإجباري وهذا سيخلق مساحة واسعة للاستيطان داخل فلسطين وأن النقل الإجباري ليس عملًا لا أخلاقيا. لكن خلق مساحة واسعة للاستيطان كانت تحتاج مستوطنين. ففي حين رفض الكثير من يهود العالم الهجرة إلى فلسطين كان يجب على الصهيونية إجبارهم.  وبمساعدة أنظمة تلك الدول نفسها التي ضغطت على اليهود بالهجرة، فمن لم يذهب طوعا ذهب بالإجبار. فلم يكن كل اليهود يؤمنون بالدولة الإسرائيلية ولا حتى بالأيدلوجية الصهيونية وهذا ما يظهر في ما عرف بمحرقة الهولوكوست أو محرقة اليهود التي قامت بها النازية في ألمانيا حيث يقول المؤرخ الأمريكي إدوين بلاك في كتابه “اتفاقية التهجير” إن معظم الناس لا يعرفون أنه مع وصول هتلر إلى السلطة استطاع اليهود العودة وبقوة، وبسبب رفض اليهود الهجرة إلى فلسطين عقدت الصهيونية اتفاقية عرفت باتفاقية هاّرفا/هعفراه المعروفة باسم اتفاقية التهجير، الموقعة في 25 من أغسطس/اّب عام 1933، والتي سهلت تهجير 60 ألف من صهاينة اليهود إلى فلسطين بين عامي 1933/1939. وما نريد قوله إن سياسة الصهيونية تجاه التهجير لم تكن تستهدف الفلسطينيين فقط، بل إنها طالت اليهود أنفسهم. ولأن الأيدلوجية الصهيونية ترتكز على حق اليهود في فلسطين، ولكي تكون إسرائيليًا لا يكفي أن تكون يهوديًا، بل يجب أيضًا أن تؤمن بحق اليهود في فلسطين.

ما يميز تاريخ إسرائيل أنها بدأت باغتصاب أرض ليست ملكا لها. وتاريخ صراعها يخالف تاريخ صراع الحضارات التي قاومت الاستعمار، فقد بدأت باستعمار ونشأت على دماء أبناء الأرض. تاريخها يستند إلى أساطير وأيديولوجيات تحاول إقناع العالم. ودولتها نشأت على اتفاقيات مستعمرين وجمعت أعراقًا وأجناسًا من بقاع الأرض، الرابط الوحيد بينهم هو الدين وركيزتها اعتناق الأيدلوجية الصهيونية.

تصارع إسرائيل من خلال الادعاءات والروايات التي أصبغت عليها طابعًا توراتيًا لا يُعلم مصدره. إسرائيل تصارع الحقائق التاريخية لتثبت وجودها التاريخ القديم في الحاضر. تحاول أن تصنع تاريخها على هيكل مزعوم.  يعاد هذا التاريخ كلما زاد عنف إسرائيل على الواقع تجاه الفلسطينيين.

الخاتمة:

يرتبط مفهوم الهُوية بتاريخ الأمة فكل حضارة تشكلت عبر مراحل التاريخ. اكتسبت الحضارات ومن تجارب التاريخ مفاهيم وثقافات مختلفة. واختلاف الحضارات والأمم وتعدد اللغات والأجناس أكسب كل حضارة هُوية معينة ميزتها عن بقية الحضارات. وأدى توسع تلك الحضارات والعوامل الجغرافية والطبيعية والحضارية إلى تغير في الطبيعة البنيوية للمجتمعات. خلقت تلك التغيرات تنوعًا داخل المجتمع الواحد. ومع تطور مفهوم الهُوية والذي كان عائقًا أمام بناء الدولة القومية والتي تطورت هي الأخرى ضمن محيط جغرافي وسياسي كان لابد أن يواكب تطور المجتمع تطور في هيكل الدولة. فلم تعد الهُوية تبنى على معاني معينة، بل أصبحت ضمن إطار كيان الدولة الذي جمعت تحت إطارها هويات متعددة. أصبحت الهُوية مقسمة ضمن حدود جغرافية وسياسية وليست حدودًا ثقافية أو عرقية أو دينية. لكن ما يميز إسرائيل أنها أرادت أن ترتكز على الدين. وأن مجتمع الدولة الإسرائيلية الذي حلمت به الصهيونية هو مجتمع يجمعه الدين اليهودي بغض النظر عن كل الاعتبارات الأخرى. وهذا ما يميز دولة إسرائيل عن غيرها من الدول القومية فهي ترتكز على الدين اليهودي والأيدلوجية الصهيونية التي تعتبر فلسطين موطنها الأصلي. لكن تعدد الجغرافيا التي جاء منها اليهود شكل داخل إسرائيل نظامًا طبقيًا وتمييزًا عنصريًا، والذي أصبح كالنظام الطبقي الذي عرفته أوروبا قبل الثورة الصناعية.

لم يقتصر صراع الصهيونية مع الأرض والإنسان في فلسطين بل تجاوز صراعها حقبًا زمانية.  فالصهيونية تصارع الماضي ومن أجل أن تقنع العالم. وقد أضفت على أساطيرها الطابع الديني لتحريك مشاعر اليهود نحو تلك الأيديولوجيا التي تعتبر فلسطين البلد المخصص لليهود. يتجدد صراع إسرائيل مع التاريخ فهي تطمس الحقائق بالأوهام. وفي كل صراع جديد مع أصحاب الأرض يعاد التاريخ الذي تحاول إسرائيل طمسه. ومع كل صراع ينحصر تاريخ إسرائيل المزعوم شيئا فشيئا، وربما سينتهي به الحال بأن لا يتعدى حدود إسرائيل ويصبح تاريخ إسرائيل فقط للإسرائيليين.


احرص على أن يصلك جديد عن طريق الاشتراك في قناتنا

على التلغرام

أحدث المقالات

  • تاريخ العلوم السياسية

    تاريخ العلوم السياسية

  • وهم الثراء 

    وهم الثراء 

  • لماذا يجب أن نثقف أنفسنا؟

    لماذا يجب أن نثقف أنفسنا؟

  • إدانة العربي في الأدب الصهيوني.. كيف افترى سميلانسكي على العرب؟

    إدانة العربي في الأدب الصهيوني.. كيف افترى سميلانسكي على العرب؟

  • ملخص كتاب رأس المال (2)

    ملخص كتاب رأس المال (2)